منتدى دعوة الحق  

العودة   منتدى دعوة الحق > الأقسام الرئيسية > الـحوارات الـعلمية > الحوار مع رؤوس وأئمة المخالفين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-21-2012, 03:48 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

ــ وترجم له ابن عساكر في تاريخ دمشق لابن عساكر (73/120/9951): [شبيب بن شيبة بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم ابن سميّ بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس ابن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، أبو معمر التميمي المنقري الأهتمي البصري الخطيب؛ حدث عن: الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، ومعاوية بن قرّة، وعلي بن زيد، وعطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، وعمر بن عبد الله بن أبي حسين، ومحمد بن المنكدر، وخالد بن صفوان بن الأهتم. سمع منه: وكيع، والأصمعي وعيسى بن يونس، وهاشم بن القاسم أبو النّضر، وهشام بن عبيد الله الرازي، وموسى بن إسماعيل التبوذكي، ومسلم بن إبراهيم، وأبو بدر شجاع بن الوليد، ومنصور بن سلمة الخزاعي، وجبارة بن المغلّس، ومعلى بن منصور، وعبد الله بن صالح العجلي. وقدم دمشق مع المنصور، وسيأتي ذكر قدومه في ترجمة يزيد بن حاتم المهلبي، وكان من فصحاء أهل البصرة، وخطبائهم، وولّاه المهدي الري. أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر، أنبأ أبو سعد الجنزروذي، أخبرنا أبو أحمد الحسين ابن علي بن محمد بن يحيى التميمي إملاء، أنبأ أبو الليث نصر بن القاسم الفرائضي، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم، حدثنا شبيب بن شيبة. (ح) وأخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو بكر يوسف بن القاسم الميانجي (ح) وأخبرتنا أم المجتبى فاطمة بنت ناصر قالت: أخبرنا إبراهيم بن منصور، أخبرنا أبو بكر بن المقرئ، أخبرنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا سريج، حدثنا أبو معاوية، عن شبيب بن شيبة، عن الحسن، عن عمران بن حصين أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأبيه حصين: «كم تعبد اليوم إلها؟» قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: «أيهم تعدّ لرغبتك ورهبتك» قال: الذي في السماء، قال: «يا حصين، إن أسلمت علّمتك كلمتين» فأسلم حصين، فجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي حديث الفرائضي: فأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: علّمني الكلمتين، قال: «قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من، وفي حديث أبي يعلى: وقني شر نفسي». رواه الروياني، عن الصنعاني، عن خلف بن الوليد، عن أبي معاوية]
وله ترجمة طويلة حسنة في تاريخ بغداد (ج9/ص274/ت4836) فيها شعر وطرائف، فارجع إليها.

* وجاء في مسند أحمد [ط الرسالة (33/197/19992)] بإسناد صحيح على شرط الشيخين: [حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّ حُصَيْنًا، أَوْ حَصِينًا أَتَى رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ كَانَ خَيْرًا لِقَوْمِهِ مِنْكَ؛ كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ، وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ؛ فَقَالَ لَهُ: مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَقُولَ؟ قَالَ: (قُلِ اللهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي، وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي). قَالَ: فَانْطَلَقَ فَأَسْلَمَ الرَّجُلُ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُكَ فَقُلْتَ لِي: (قُلِ اللهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي، وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي). فَمَا أَقُولُ الْآنَ؟ قَالَ: (قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَخْطَأْتُ وَمَا عَمَدْتُ، وَمَا عَلِمْتُ وَمَا جَهِلْتُ)]؛ قلت: حسين: هو ابن محمد بن بهرام المرّوذي، وشيبان: هو ابن عبد الرحمن النحوي، ومنصور: هو ابن المعتمر؛ وإبهام الذي حدَّث ربعياً لا يضر، فقد علمنا يقيناً أنه عمران.
ــ وهو في الدعاء للطبراني (ص:412/1394) بحذف واختصار: [حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَشِّيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَنْبَأَ شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَوْ عَنْ رَجُلٍ أَنَّ حُصَيْنًا، أَتَى النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَبْدُ الْمُطَّلِبِ كَانَ خَيْرًا لِقَوْمِكَ مِنْكَ، كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ، وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَقُولَ؟ قَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي، وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي]
ــ وأخرجه الطبراني في "الكبير" 4/(3551) و18/(599) من طريقْ عبد الله ابن رجاء، عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي، بهذا الإسناد. وقال فيه: عن عمران أو عن رجل. ولم يسق لفظه في الموضع الأول. وأخرجه ابن أبي شيبة 10/267 - 268، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (994)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (2525)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1480) من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن منصور بن المعتمر، به.
وأخرجه الطبراني 4/(3551) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن ربعي، قال: حدثت أن الحصين أبا عمران... ولم يسق لفظه.
ــ وأخرجه عبد بن حميد (476)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2354)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (993)، وابن حبان (899)، والحاكم 1/510 من طريق إسرائيل بن يونس، والنسائي (993 م) من طريق عمرو بن أبي قيس، والطحاوي في "شرح المشكل" (2526) من طريق يحيى ابن يعلى التيمي، ثلاثتهم عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، عن عمران، عن أبيه، به. فجعلوه من مسند حصين والد عمران. وهذا إسناد صحيح أيضاً.
قلت: متن حديث الترمذي، على ما في إسناده من مقال، أكثر استقامة، وأقرب إلى تسلسل الأحداث المعقول على الرغم من كون إسناد حديث ربعي بن حراش غاية في الصحة، من أصح أحاديث الدنيا. فمن المحال الممتنع أن يسأل حصين النبي، صلى الله عليه وسلم، عن شيء أصلا قبل إسلامه. أما الدعاء الثاني: (قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَخْطَأْتُ وَمَا عَمَدْتُ، وَمَا عَلِمْتُ وَمَا جَهِلْتُ)، فلعله جاء بعد إسلامه وتعلمه الدعاء الأول مستزيداً، فزاده النبي، صلى الله عليه وسلم، هذا الدعاء الأخير؛ وتفرد ربعي بهذا الدعاء الثاني.
ولعلنا نلاحظ أن ربعي، أو غيره من رجال الإسناد، لم يعيروا كبير اهتمام لما دار بين حصين والنبي، صلى الله عليه وسلم، من حوار، ربما كان طويلاً، واكتفوا بجملتين: (يَا مُحَمَّدُ لَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ كَانَ خَيْرًا لِقَوْمِهِ مِنْكَ؛ كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ، وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ).
فهذه القصة أنموذج حي، وبرهان قاطع جلي، على أن صحة الإسناد لا تقتضي، بالضرورة، سلامة المتن وصحته؛ وهي كذلك درس قاسي لمن اعتاد ترك تتبع الطرق والألفاظ.

* وجاء الدعاء فقط من طرق أخرى، فقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير (ج18/ص186/ح439): [حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، حدثنا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أخبرنا خَالِدٌ، عَنِ الْفَضْلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي صَدَقَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم: (يَا عِمْرَانُ قُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَهْدِيكَ لِأَرْشَدِ أَمْرِي، وَأَسْتَجِيرُكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي)]؛ وهو بعينه في معجمه الأوسط (ج8/ص33/ح7875)؛
ــ وهو في تاريخ بغداد وذيوله [ط العلمية (ج14/ص293/ت7592)] خلال ترجمة (يعقوب بْن مُحَمَّد بْن الحارث، اللخمي: من أهل الأنبار. حَدَّث عَن وهب بْن بقيَّة الواسطي. رَوَى عَنْهُ الطبراني) من طريق ثانية مع زيادة في غاية الأهمية: [أَخْبَرَنَا ابْنُ شهريار، أخبرنا سليمان بن أحمد الطّبراني، حدثنا يعقوب بن محمّد ابن الحارث اللّخميّ الأنباريّ، حدثنا وهب بن بقية الواسطيّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْفَضْلِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي صَدَقَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: «يَا عِمْرَانُ» قُلْتُ لَبَّيْكَ قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَهْدِيكَ لأَرْشَدِ أُمُورِي، وأستجير بك مِنْ شَرِّ نَفْسِي». قَالَ سُلَيْمَانُ: (لَمْ يَرْوِهِ عَنْ سَعِيدٍ إِلا الْفَضْلُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ، تَفَرَّدَ بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ)]؛ وبعينه في تاريخ بغداد [ت بشار (16/426/7544)]؛ فالإسناد صحيح إذاً.
ــ وأخرج الطبراني في معجمه الكبير (ج18/ص115/ح223): [حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا خليفة بن خياط حدثنا يحيى بن أيوب الخاقاني عن الجريري عن أبي العلاء عن مطرف عن عمران قال: قال رجل يا رسول الله إني أسلمت فما تأمرني قال قل اللهم إني أستهديك أمري وأعوذ بك من شر نفسي]
*ولكن أخرج الإمام بن خزيمة [وهو: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ)] في كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/277): [حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُذْرِيُّ، قَالَ: حدثنا عِمْرَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ طَلِيقِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ قُرَيْشًا جَاءَتْ إِلَى الْحُصَيْنِ، وَكَانَتْ تُعَظِّمُهُ، فَقَالُوا لَهُ: كَلِّمْ لَنَا هَذَا الرَّجُلَ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا وَيَسِبُّهُمْ، فَجَاءُوا مَعَهُ حَتَّى جَلَسُوا قَرِيبًا مِنْ بَابِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، وَدَخَلَ الْحُصَيْنُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ»، وَعِمْرَانُ وَأَصْحَابُهُ مُتَوَافِدُونَ، فَقَالَ حُصَيْنٌ: مَا هَذَا الَّذِي يَبْلُغْنَا عَنْكَ، إِنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتَذْكُرُهُمْ، وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ جَفْنَةً وَخُبْزًا فَقَالَ: «يَا حُصَيْنُ، إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ، يَا حُصَيْنُ، كَمْ إِلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ؟» قَالَ: سَبْعَةً فِي الْأَرْضِ، وَإِلَهًا فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «فَإِذَا أَصَابَكَ الضُّرُّ مَنْ تَدْعُو؟» قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ مَنْ تَدْعُو؟ " قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «فَيَسْتَجِيبُ لَكَ وَحْدَهُ، وَتُشْرِكُهُمْ مَعَهُ؟» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَمْلَيْتُهُ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ]
ــ وهو في إثبات صفة العلو - ابن قدامة (ص:75/5): [أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ) أَنْبَأَ (أَبُو الْفَضْلِ) أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ، أَنْبَأَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَاذَانَ، أَنْبَأَ أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحْمُدِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ أَنْبَأَ أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ (بْنِ زِيَادٍ) الديرعاقولي حدثَنَا رَجَاءُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَصْرِيُّ، حدثَنَا عِمْرَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ طَلِيقٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: اخْتَلَفَتْ قُرَيْشٌ إِلَى الْحُصَيْنِ أبي عِمْرَانَ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا، فَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تُكَلِّمَهُ وَتَعِظَهُ، فَمَشَوْا مَعَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ بَابِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَجَلَسُوا وَدَخَلَ حُصَيْنٌ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ، فَأَوْسَعُوا لَهُ، وَعِمْرَانُ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، مُتَوَافِرُونَ، فَقَالَ حُصَيْنٌ: مَا هَذَا الَّذِي يَبْلُغُنَا عَنْكَ أَنَّكَ تَشْتِمُ آلِهَتَنَا وَتَذْكُرُهُمْ، وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ جَفْنَةً وَخُبْزًا. فَقَالَ: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ)، يَا حُصَيْنُ كَمْ إِلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: سَبْعَةً فِي الأَرْضِ وَإِلَهًا فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَإِذَا أَصَابَكَ الضِّيقُ فَمَنْ تَدْعُو؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ فَمَنْ تَدْعُو؟ قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَيَسْتَجِيبُ لَكَ وَحْدَهُ وَتُشْرِكُهُمْ مَعَهُ؟! قَالَ: أَمَا (رَضِيتَهُ) أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، أَوَ تَخَافُ أَنْ يُغْلَبَ عَلَيْكَ؟ قَالَ: لَا وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَمْ أُكَلِّمْ مِثْلَهُ. فَقَالَ: يَا حُصَيْنُ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، قَالَ: إِنَّ لِي قَوْمًا (وَعَشِيرَةً) فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟ قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَهْدِيكَ لأَرْشَدِ أَمْرِي، وَأَسْتَجِيرُكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَانْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا يَنْفَعُنِي، فَقَالَهَا، فَلَمْ يَقُمْ حَتَّى أَسْلَمَ، فَوَثَبَ عِمْرَانُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: مِمَّا صَنَعَ عِمْرَانُ، دَخَلَ حُصَيْنٌ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى نَاحِيَتِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ قَضَى حَقَّهُ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ رِقَّةٌ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ حُصَيْنٌ قَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم: قُومُوا فَشَيِّعُوهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ سُدَّةِ الْبَابِ نَظَرَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَتْ: صَبَأَ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ]؛ قلت: آخر القصة منكر عجيب، ويشبه أن يكون مكذوباً، فلا عجب أن دلَّسه جمهور الأئمة، كابن خزيمة، وقد مضى، والذهبي وسيأتي، مكتفين بقولهم: (وَذَكَرَ الْحَدِيثَ)، أو كلاماً نحو هذا.
ــ وأخرجه الإمام الذهبي في العلو للعلي الغفار (ص:24/43): [أَخْبَرَنَا الْقَاضِي تَاج الدّين بن عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ ببعلبك أخبرنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ سنة إِحْدَى عشر وسِتمِائَة أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْحَاجِبُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ الْقَطَّانُ حَدثنَا عبد الْكَرِيم الديرعاقولي حَدثنَا رَجَاء بن مرجا الْبَصْرِيّ حَدثنَا عِمْرَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ طُلَيْقٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ اخْتَلَفَتْ قُرَيْشٌ إِلَى حُصَيْنٍ وَالِدِ عِمْرَانَ فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَذْكُرُ آلِهَتَنَا فَنُحِبُّ أَنْ تُكَلِّمَهُ وَتَعِظَهُ فَمَشَوْا مَعَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ بَابِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسُوا وَدَخَلَ حُصَيْنٌ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ؛ فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي يبلغنَا عَنْكَ إِنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتَذْكُرُهُمْ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ جَفْنَةً وَخُبْزًا؛ فَقَالَ إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ إِلَهًا الْيَوْمَ قَالَ سَبْعَةً فِي الأَرْضِ وَإِلَهًا فِي السَّمَاءِ؛ قَالَ فَإِذَا أَصَابَكَ الضِّيقُ فَمَنْ تَدْعُو قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ؛ قَالَ فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ فَمَنْ تَدْعُو قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ؛ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ]
ــ وأيضا في العلو للعلي الغفار (ص:25/44): [فَقَرَأْتُ عَلَى أسْحَاق الْأَسدي أَنبأَنَا ابْن خَلِيل أَنبأَنَا عبد الْخَالِق ابْن عبد الْوَهَّاب أخبرنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُؤَذِّنُ أَخْبَرَنَا أَحْمد بن مَنْصُور المغربي أخبرنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة أخبرنَا جدي أَبُو بكر حَدثنَا رَجَاء بن مُحَمَّد حَدثنَا عِمْرَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ طُلَيْقٍ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوًا مِمَّا تَقَدَّمَ بِطُولِه]ِ
ــ وفي العلو للعلي الغفار (ص:25/45): [أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ البعلي أخبرنَا الْبَهَاء عبد الرَّحْمَن حضورا أخبرنَا نَصْرُ بْنُ فَتْيَانَ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الشَّيْبَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن ابْن الْمُهْتَدي بِاللَّه حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف العلاف حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف حَدثنَا مُحَمَّد بن علاف الْبَغَوِيّ حَدثنَا جدي حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ به]
ــ وفي العرش للذهبي (2/76): [ورواه خالد بن طليق، عن أبيه، أتم من هذا فيما: أخبرنا عبد الخالق بن عبد السلام ببعلبك، أخبرنا عبد الله بن أحمد الفقيه سنة إحدى عشر وستمائة، أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو الفضل بن خيرون، أخبرنا ابن شاذان، أخبرنا أبو سهل القطان أخبرنا عبد الكريم الديرعاقولي، حدثنا رجاء بن محمد البصري، حدثنا عمران بن خالد بن طليق، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده قال: "اختلفت قريش إلى حصين، والد عمران فقالوا: إن هذا الرجل يذكر آلهتنا، فنحب أن تكلمه، وتعظه، فمشوا معه إلى قريب من باب النبي، صلى الله عليه وسلم، فجلسوا، ودخل حصين، فلما رآه النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أوسعوا للشيخ)، فقال: "ما هذا الذي يبلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم؟ وقد كان أبوك جفنة وخبزاً" فقال: (إن أبي وأباك في النار: يا حصين، كم تعبد إلهاً اليوم؟)، قال: "ستة في الأرض، وإله في السماء" قال: (فإذا أصابك الضيق بمن تدعو؟)، قال: "الذي في السماء"؛ وذكر باقي الحديث، وإسلامه. أخرجه إمام الأئمة ابن خزيمة في التوحيد له بهذا الإسناد، وطليق هو ابن محمد بن عمران بن حصين]
قلت: عِمْرَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ طَلِيقِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الخزاعي، مجمع على ضعفه كما هو في لسان الميزان (ج4/ص345/ت997 - 998): [قال أبو حاتم ضعيف وقال بن حبان لا يجوز الاحتجاج به. قلت روى عنه معلى بن هلال وبشر بن معاذ العقدي وجماعة وقد روى عنه غير واحد عن ثابت عن أنس عن سلمان رضي الله عنه مرفوعا من دخل على أخيه المسلم فألقى له وسادة اكراما له لم يتفرقا حتى يغفر لهما ذنوبهما وهذا خبر ساقط انتهى وقال أحمد متروك الحديث؛ وعن أبائه حديث النظر إلى علي عبادة رواه يعقوب الفسوي وهذا باطل في نقدي انتهى وقال العلائي الحكم عليه بالبطلان فيه بعيد ولكنه كما قال الخطيب غريب قلت وخالد ضعفه الدارقطني كما تقدم]؛ وأبوه خَالِدِ بْنِ طَلِيقِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الخزاعي، ابتلي بالعجب بالنفس عجباً فاحشاً يخشى أن يوجب تفسيقه وإسقاط عدالته، فقد جاء في لسان الميزان (ج2/ص379/ت1568): [خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين الخزاعي عن أبيه قال الدارقطني ليس بالقوي انتهى وقال بن أبي حاتم كان قاضي البصرة روى عن الحسن وأبيه طليق وعنه ابنه عمران وسهل بن هاشم ولم يذكر فيه جرحا وقال الساجي صدوق يهم والذي أتى منه روايته غير الثقات وذكره بن حبان في الثقات وقال بن النديم في الفهرست كان إخباريا وانه من النسابين. وكان معجبا تياها ولاه المهدي قضاء البصرة وبلغ من تيهه انه كان إذا أقيمت الصلاة صلى في موضعه فربما قام وحده فقال له مرة انسان استوف الصف فقال بل يستوفى الصف بي؛ قلت: اف على هذا التيه. وقال بن الجوزي في المنظم ولاه المهدي قضاء البصرة بعد عزل العنبري فلم يحمد ولايته واستعفى أهل البصرة منه]، فنسأل الله العافية، ونعوذ به من الخذلان: فكيف يؤتمن مثل هذا أن لا يزيد في الحديث مناقب لآبائه وأجداده؟! وأسارع فأقول أن ابن حبان ما ذكره في الثقات قط، وإنما ذكر خالد بن طليق الشامي الذي يروى عن يزيد بن خمير اليزني عن عبد الرحمن بن شبل روى عنه الزبيدي كما هو في الثقات (ج2/ص379/ت1568).
قلت: والروايات أعلاه تثبت أن حصين، والد عمران، كان قد أسلم، وتثبت بطلان الرواية التي تزعم أنه مات مشركاً. فقد أخرج ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2356)، واللفظ له، والبزار في "مسنده" (3580)، والطحاوي في "شرح المشكل" (2527)، والطبراني في "الكبير" 4/(3552) و(3553) و18/(548) و(549) من طريق داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن بن ربيعة مولى الهاشميين، عن عمران: [أن أباه حصيناً أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلاً يَقرِي الضيف، ويصل الرَّحِم، مات قبلك، وهو أبوك؟ قال: إن أبي وأباك وأنت في النار، فمات حصين مشركاَ]. ثم قال ابن أبي عاصم: (المتقدم. (يعني حديث أنه أسلم) أحسن من هذا)؛ وقال الطبراني: (الصحيح أنه أسلم). والعباس بن عبد الرحمن مولى الهاشميين هذا مجهول لا يعرف، تفرد بالرواية عنه داود بن أبي هند، فالظاهر أن البلاء منه.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-21-2012, 03:49 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

هذا كله فيما يتعلق بالمثال الأول للأستاذ ضياء القدسي فيما يتعلق بالإسناد ولفظ الخبر، ولم نجد اللفظ الذي ذكره منسوباً إلى البيهقي، ولا الإسناد الذي حسنه (هو، أو البيهقي، أو صاحب الكتاب الذي اقتبس كلام البيهقي)؛ فهذا دليل أول على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

وحتى لو سلمنا باللفظ، كما ذكره، وبصحة الخبر، كما زعمه، فهو حجة عليه لا له؛ لأن الخبر، والأخبار الأخرى المشابهة، هي قصص جدال ولجاجة قوم معاندين، وليس هو مناظرة بأصولها المعلومة. ولعلك تتأمل كلام ابن كثير: (وَهَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مَجْلِسُ ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ وعناد، وَلِهَذَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالرَّحْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَلَّا يُجَابُوا إِلَى مَا سَأَلُوا، لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ).
فالأستاذ ضياء القدسي لا يميز بين اللجاج والمجادلة من جانب والمناظرة من جانب آخر. فهذا دليل ثاني على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

ومن حقنا نطبق المثال الأول كما ذكره بحذافيره، على حالنا فنقول: نحن لم نأت إليك، بل أنت الذي إلينا جئت مجادلاً فحالك كحال حصين الخزاعي، فمن حقنا أن نلوذ بالصمت، كما فعل سيدي أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العدناني، رسول الله، وخاتم النبيين، حتى تفرغ من كلامك وجدالك ولجاجك، ثم نقول: إقرأ كتابنا (كتاب التوحيد) قراءة هضم واستيعاب ونقد؛ فإن فعلت: أفدناك، بإذن الله، فوائد أخرى تنفع في الدنيا والآخرة. فهذا دليل ثالث على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

أما المثال الثاني: فقد اقتبسه من مصدر ثانوي، كعادته، من غير ذكر المصدر، وهو مع ذلك ناقص. ولو أنه رجع إلى المكتبة الإلكترونية الشاملة لما احتاج إلا إلى بضع دقائق للقص واللزق، وسويعات لمراجعة أقوال الأئمة في إسناد القصة وثبوتها. فهذا دليل رابع على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

وإليك القصة بأحرفها كما ورت في تاريخ بغداد [ت بشار (5/233/2095)] خلال ترجمة (أَحْمَد بْن أَبِي دَؤاد بْن حريز، أَبُو عَبْد اللَّه الْقَاضِي الإيادي): [أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الفرج بْن عَلِيّ البزاز، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم بْن ماسي، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بْن شُعَيْب الشاشي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يوسف الشاشي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن مَنَّه، قَالَ: سَمِعْتُ طَاهِر بْن خلف، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن الواثق الَّذِي يقال لَهُ المهتدى بالله، يَقُولُ: كَانَ أَبِي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس، فأتى بشيخ مخضوب مقيد، فَقَالَ أَبِي: ائذنوا لأبي عَبْد اللَّه وأصحابه يَعْنِي: ابْن أَبِي دؤاد، قَالَ: فأدخل الشيخ فِي مصلاه، قَالَ: السلام عليك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ لا سلم اللَّه عليك، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بئس ما أدبك مؤدبك، قَالَ اللَّه تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها، فَقَالَ ابن أَبِي دؤاد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرجل متكلم.
فَقَالَ لَهُ كلمه، فَقَالَ: يا شيخ، ما تقول فِي القرآن، قَالَ الشيخ: لم تنصفني، يَعْنِي: (ولي السؤال)، فَقَالَ لَهُ: سل، فَقَالَ لَهُ الشيخ: ما نقول فِي القرآن؟ فَقَالَ: مخلوق، فَقَالَ: هَذَا شيء علمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه، فَقَالَ: شيء لم يعلموه، فَقَالَ سبحان اللَّه: شيء لم يعلمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، ولا أَبُو بَكْر، ولا عُمَر، ولا عُثْمَان، ولا عَلِيّ، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ قَالَ: فخجل، فَقَالَ: أقلني والمسألة بحالها، قَالَ: نعم، قَالَ: ما تقول فِي القرآن، فَقَالَ: مخلوق، فَقَالَ: هَذَا شيء علمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، أم لم يعلموه؟ فَقَالَ: علموه، ولم يدعوا الناس إليه، قَالَ: أفلا وسعك ما وسعهم، قَالَ: ثم قام أَبِي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يَقُولُ: هَذَا شيء لم يعلمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، ولا أَبُو بَكْر، ولا عُمَر، ولا عُثْمَان، ولا عَلِيّ، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ سبحان اللَّه! شيء علمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، ولم يدعوا الناس إليه؟ أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم دعا عمارا الحاجب، فأمر أن يرفع عَنْهُ القيود ويعطيه أربع مائة دينار ويأذن لَهُ فِي الرجوع، وسقط من عينه ابْن أَبِي دؤاد. ولم يمتحن بعد ذلك أحدا]
قلت: هذه قصة لا تثبت، فيها رواة مجاهيل لا يعرفون كما قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء [ط الرسالة (11/313 - 316)]: [هَذِهِ قِصَّةٌ مَلِيْحَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيْقِهَا مَنْ يُجهَلُ، وَلَهَا شَاهدٌ]؛ ثم ساق الشاهد، وهو وإن لم يكن في موضوعنا إلا أنه مفيد جداً لمن أصيب بهوس (التكفير) لمن قال بـ(خلق القرآن):
ــ فقد جاء في سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/313): [وبإِسْنَادِنَا إِلَى الخَطِيْبِ: أَخْبَرْنَا ابْنُ رَزْقُوَيْه، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ سِنْدِي الحَدَّادُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ المُمْتَنِعِ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بنُ عَلِيٍّ الهَاشِمِيُّ، قَالَ: حَضَرتُ المُهْتَدِي بِاللهِ، وَجَلَسَ لِينظُرَ فِي أُمورِ المَظْلُوْمِيْنَ، فَنَظَرتُ فِي القَصصِ تُقرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرهَا، فَيَأمرُ بِالتَّوقيعِ فِيْهَا، وَتُحَرَّرُ، وَتُدفعُ إِلَى صَاحِبهَا، فَيَسرُّنِي ذَلِكَ، فَجَعَلتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَفَطِنَ، وَنَظَرَ إِلَيَّ، فَغَضضْتُ عَنْهُ، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ مِنِّي وَمِنْهُ مِرَاراً، فَقَالَ: يَا صَالِحُ. قُلْتُ: لَبَّيكَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، وَوَثَبْتُ. فَقَالَ: فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ تُرِيْدُ أَنْ تَقُولَه؟! قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: عُدْ إِلَى مَوْضِعِكَ. فَلَمَّا قَامَ، خَلاَ بِي، وَقَالَ: يَا صَالِحُ، تَقُوْلُ لِي مَا دَارَ فِي نَفْسِكَ أَوِ أَقُوْلُ أَنَا؟ قُلْتُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، مَا تَأْمرُ؟ قَالَ: أَقُوْلُ: إِنَّه دَارَ فِي نَفْسِكَ أَنَّكَ اسْتحسنْتَ مَا رَأَيْتَ مِنَّا. فَقُلْتَ: أَيُّ خَلِيْفَةٍ خَلِيفتُنَا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَقُوْلُ: القُرْآنُ مَخْلُوْقٌ. فَوَرَدَ عَلَيَّ أَمْرٌ عَظِيْمٌ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا نَفْسُ، هَلْ تَمُوتِينَ قَبْلَ أَجَلِكِ؟ فَقُلْتُ: مَا دَارَ فِي نَفْسِي إِلاَّ مَا قُلْتَ.
فَأَطرَقَ مَلِيّاً، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! اسْمعْ، فَوَ اللهِ لَتَسْمَعنَّ الحَقَّ. فَسُرِّيَ عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَنْ أَوْلَى بِقَولِ الحَقِّ مِنْكَ، وَأَنْتَ خَلِيْفَةُ رَبِّ العَالِمِيْنَ. قَالَ: مَا زِلْتُ أَقُوْلُ: إِنَّ القُرْآنَ مَخْلُوْقٌ صَدْراً مِنْ أَيَّامِ الوَاثِقِ – (قُلْتُ: كَانَ صَغِيْراً أَيَّامَ الوَاثِقِ، وَالحِكَايَةُ فَمُنْكَرَةٌ).ثُمَّ قَالَ: حَتَّى أَقدَمَ أَحْمَدُ بنُ أَبِي دُوَادَ عَلَيْنَا شَيْخاً مِنْ أَذَنَةَ، فَأُدخلَ عَلَى الوَاثِقِ مُقيَّداً، فَرَأَيْتُهُ اسْتَحيَا مِنْهُ، وَرَقَّ لَهُ، وَقَرَّبَه، فَسَلَّمَ، وَدَعَا، فَقَالَ: يَا شَيْخُ، نَاظِرِ ابْنَ أَبِي دُوَادَ. فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، نَصَّبُوا ابْنَ أَبِي دُوَادَ، وَيَضعُفُ عَنِ المُنَاظَرَةِ. فَغَضِبَ الوَاثِقُ، وَقَالَ: أَيَضعُفُ عَنْ مُنَاظرتِكَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَائْذَنْ لِي فِي مُنَاظرتِهِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِ. قَالَ: أَفْعَلُ. فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَحْمَدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ مَقَالتِكَ هَذِهِ، هِيَ مَقَالَةٌ وَاجبَةٌ دَاخلَةٌ فِي عَقْدِ الدِّينِ، فَلاَ يَكُوْنُ الدِّينُ كَامِلاً حَتَّى تُقَالَ فِيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ رَسُوْلِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، - حِيْنَ بُعثَ، هَلْ سَتَرَ شَيْئاً مِمَّا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنْ أَمرِ دِينِهِم؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَدَعَا الأُمَّةَ إِلَى مَقَالتِكَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ، فَالتفتَ الشَّيْخُ إِلَى الوَاثِقِ، وَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ وَاحِدَةٌ. قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ الشَّيْخُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ اللهِ حِيْنَ قَالَ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلِيْكُمْ نِعْمَتِي} (المَائدَةُ؛ 5: 3)، هَلْ كَانَ الصَّادِقُ فِي إِكمَالِ دِينِهِ، أَوْ أَنْتَ الصَّادِقُ فِي نُقصَانِهِ حَتَّى يُقَالَ بِمَقَالتِكَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ، فَقَالَ: أَجِبْ، فَلَمْ يُجِبْ. فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، اثْنَتَانِ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ مَقَالتِكَ، أَعَلِمَهَا رَسُوْلُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، أَمْ لاَ؟ قَالَ: عَلِمَهَا. قَالَ: فَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا؟ فَسَكَتَ. فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، ثَلاَثٌ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ، فَاتَّسعَ لِرَسُوْلِ اللهِ أَنْ يَعلَمَهَا وَأَمسَكَ عَنْهَا كَمَا زَعمتَ، وَلَمْ يُطَالبْ أُمَّتَهُ بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاتَّسعَ ذَلِكَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَعرضَ الشَّيْخُ، وَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، قَدْ قَدَّمْتُ أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنِ المُنَاظَرَةِ، إِنْ لَمْ يَتَّسعْ لَنَا الإِمسَاكُ عَنْهَا، فَلاَ وَسَّعَ اللهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّسعْ لَهُ مَا اتَّسَعَ لَهُم. فَقَالَ الوَاثِقُ: نَعَمْ، اقطَعُوا قَيْدَ الشَّيْخِ. فَلَمَّا قُطعَ، ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى القَيدِ ليَأْخُذَهُ، فَجَاذَبَهُ الحَدَّادُ عَلَيْهِ. فَقَالَ الوَاثِق: لِمَ أَخَذْتَهُ؟ قَالَ: لأَنِّي نَوَيتُ أَن أُوصِيَ أَنْ يُجعلَ فِي كَفَنِي حَتَّى أُخَاصِمَ بِهِ هَذَا الظَالِمَ غَداً. وَبَكَى، فَبَكَى الوَاثِقُ وَبَكَيْنَا، ثُمَّ سَألَهُ الوَاثِقُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ، فَقَالَ: لَقَدْ جَعَلتُكَ فِي حِلٍّ وَسَعَةٍ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ إِكرَاماً لِرَسُوْلِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، لِكَونِكَ مِنْ أَهْلِهِ. فَقَالَ لَهُ: أَقِمْ قِبَلَنَا فَنَنْتَفِعْ بِكَ، وَتَنْتَفِعْ بِنَا. قَالَ: إِنَّ رَدَّكَ إِيَّايَ إِلَى مَوْضِعِي أَنفعُ لَكَ، أَصِيرُ إِلَى أَهْلِي وَوَلَدِي، فَأَكُفَّ دُعَاءَهُم عَلَيْكَ، فَقَدْ خَلَّفتُهُم عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَتَقبلُ مِنَّا صِلَةً؟ قَالَ: لاَ تَحِلُّ لِي، أَنَا عَنْهَا غَنِيٌّ. قَالَ المُهْتَدِي: فَرَجَعتُ عَنْ هَذِهِ المَقَالَةِ، وَأَظنُّ أَنَّ أَبِي رَجَعَ عَنْهَا مُنْذُ ذَلِكَ الوَقْتِ. قَالَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيْرَازِيُّ الحَافِظُ: هَذَا الأَذَنِيُّ هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ الأَذْرَمِيُّ]؛ انتهى كلام الإمام الذهبي في سير الأعلام، ولعلك تلاحظ دقة الإمام في جملته المعترضة: (قُلْتُ: كَانَ صَغِيْراً أَيَّامَ الوَاثِقِ، وَالحِكَايَةُ فَمُنْكَرَةٌ)، فالحكاية منكرة، وإن كانت ممتعة لطيفة؛ وقد صاغها راويها – أو مخترعها - مراعياً بعض أصول المناظرة، ومن أهمها وجود مسألة معلومة محددة، حتى لا تنقلب المناظرة جدلاً إلى لا نهاية.
والحق أنه لم يثبت على نحو يقيني أن الواثق توقَّف عن امتحان الناس، كيف وهو ترك جثمان الإمام الشهيد المظلوم معلقاً مصلوباً عند أحد أبواب بغداد إلى وفاته؟!
فالسابق هو إذاً النص في تاريخ بغداد بعينه؛ لاحظ النص: (قَالَ الشيخ: لم تنصفني، يَعْنِي: (وَلِيَ السؤال)، فَقَالَ لَهُ: سل) مما يدل على أن الطرفين يعرفان أن للمناظرة أصولاً وقواعد: من له الحق أن يبدأ، وكيف تكون الإجابة،... إلخ؛ خلافاً لنص المحرَّف، الذي أورده الأستاذ ضياء القدسي: (قال الشيخ:‏ ‏ أنا أسألك قبل. ‏فقال له: سـَلْ) الذي لا يظهر منه ذلك إطلاقاً.
قال الأستاذ ضياء القدسي: [أين ومتى سألتك هل تقول أو لا تقول بقاعدة: "الأصل في الأشياء، والأفعال، والأقوال الإباحة"؟ أنا أعلم أنك تقول بهذه القاعدة، وليس أنت ولا ابن حزم فقط يقولان بهذه القاعدة يا أستاذ كما تظن متفاخراً. فهذه قاعدة قال بها قبل ابن حزم أكثر علماء الحنفية وأكثر علماء الحنابلة وبعض الشافعية وأبو الفرج المالكي من المالكية. فكيف تقول أنه لم يسبقك إليها إلا ابن حزم؟ أما عن قولك بأنك أصلت لهذه القاعدة على نحو لم يسبقك أحد إليه فسيأتي إن شاء الله الرد على هذا الكلام في مكانه]
وذلك رداً على قولنا: [وإلا لعلم، مثلاً، علم يقين أننا نقول: (أن الأصل في الأشياء، والأفعال، والأقوال الإباحة)، وقد أصلنا ذلك – بحمد الله – على نحو لم نسبق إليه، إلا من الإمام الفقيه الحافظ الحجة أبي محمد علي بن حزم في أجزاء جوهرية منه]
نص قولنا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وهو (وقد أصلنا ذلك – بحمد الله – على نحو لم نسبق إليه، إلا من الإمام الفقيه الحافظ الحجة أبي محمد علي بن حزم في أجزاء جوهرية منه)، فالكلام عن (التأصيل الجوهري) الذي من الله علينا به، ولا فخر أو تباهي، فلم يسبقنا إليه، أو إلى بعضه، سوى الإمام الفحل أبو محمد علي بن حزم؛ أما جمهور الفقهاء الذين قالوا بها، وهم أكثر بكثير ممن ذكر، فلم يأت منهم تأصيل معتبر، اللهم إلا الجملة أو الجملتان، في أسطر قلية. وأكثرهم إنما يراها تنطبق فقط على (الأشياء) أو (المنافع)، وليس على الأقوال والأفعال، وإلا لما غرقوا في مستنقع الأقيسة الفاسدة، والآراء المنتنة.
فالأستاذ ضياء القدسي، فيما يظهر، لا يستطيع قراءة النصوص العربية الواضحة، وهذا برهان خامس على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

أما ذكرنا للقاعدة فلأن ذكره ضروري في الرد على كلامه هو، الذي هو هراء محض: (ما حكم من لم يبحث عن دليل في المباحات وبحث عن دليل التحريم فقط. وقال الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت دليل على حرمتها؟ هل مثل هذا الشخص لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله في الإتباع؟)
نقول: (هراء محض) لأن من قال بأن الأصل في الأشياء (وسنتساهل ها هنا معتبرين أن لفظة الأشياء تشمل الأعيان، والأفعال والأقوال) الإباحة، وسنفترض أنه أصل ذلك تأصيلاً قاطعاً للعذر، تقوم به الحجة، كما فعلنا نحن، بحمد الله؛ من قال بالقاعدة المذكورة لا يتصور أن (يبحث عن دليل الإباحة لذلك الشيء المخصوص) لأن الدليل قد قام وفق القاعدة العامة، وانتهى الأمر، وفرغ من المسألة؛ مع أنه كثيراً ما نجد أدلة مخصوصة على إباحة أشياء معينة، وهذا مزيد بيان من فضل الله ونعمته، ولو لم يأت لكفتنا القاعدة العامة، تماماً كفرضية الصلاة والزكاة جاءت بها آيات وأحاديث كثيرة، ولو لم تأت إلا واحدة لكفت ووفت، كما هو الحال بالنسبة للصيام والحج، وهما كذلك من أركان الإسلام، ورؤوس فرائض الدين، إنما فرض كل منهما بآية واحدة فقط.

لذلك فإن الواجب على المفتي إذا سئل عن دليل معين لإباحة شيء معين أن يعلم السائل أن هذا النوع من السؤال خطأ، وإنما يكون السؤال عن حرمة شيء معين، أو وجوبه، أو كراهيته، أو استحبابه. فلا حاجة لي مثلاً أن أذكر دليلاً معيناً على جواز كشف المرأة لوجهها، وعلى من زعم خلاف ذلك (أي من زعم أنه حرام أو مكروه، او حتى من زعم أنه مستحب أو واجب، كمن زعم حرمة النقاب، أو أن النقاب بدعة تركية، مثلاً) أن يأتي بدليله.
ولا تناقض بين هذا، مع قولنا: (حتى الإتباع في «المباحات» يحتاج إلى دليل، لأن الإباحة حكم شرعي تكليفي)، كذا في الطبعة القديمة، وقد أصلحناها هكذا: (حتى الإتباع في «الإباحة» يحتاج إلى دليل، لأن الإباحة حكم شرعي تكليفي)؛ وقد جاء الشرع، ولله الحمد، بالدليل العام وفق قاعدتنا المذكورة آنفاً، ولأن ذلك في مقام الرد على من زعم أن الأصل في الأشياء (معتبرين أن لفظة الأشياء تشمل الأعيان، والأفعال والأقوال) قبل ورود الشرع: الإباحة؛ وهو باطل لأنها لا حكم لها أصلاً قبل ورود الشرع.
فتخليط الأستاذ ضياء القدسي في هذه المسألة دليل سادس على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي!

| فصل: مسألة (التبني):
ثم أضاف الأستاذ ضياء القدسي بحثاً عن (التبني)، صال فيه وجال، مسيئاً لفهم كلامنا كعادته. يقول الأستاذ ضياء القدسي: [لا يمكن أن يفهم من كلام الأستاذ المسعري أن الذي يكفر بعد نزول القرآن هو الذي يعتقد «التبني» بمعنى «الاصطفاء» لأن من يعتقد أن الله اصطفى عيسى عليه السلام وجميع الأنبياء لا يكفر حتى بعد نزول القرآن. ولا يوجد في القرآن الكريم آية تمنع استعمال كلمة ابن بمعنى الاصطفاء حتى نحكم على من ينكرها بالكفر؟؟!
بل جاء في القرآن الكريم أن اليهود والنصارى ادعوا أنهم أبناء الله، قال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، (المائدة: 18). أقول: لا يفهم من إدعائهم أنهم أبناء الله، أنهم أبناؤه على الحقيقة، لأنه لا أحد من اليهود والنصارى يعتقد ذلك، ولكنهم قصدوا [أصفياؤه]، لهذا لم يُكذَّبوا على أنهم ادعوا البنوة الحقيقية لله ولم يكفروا لهذا القول، لأنهم لم يكونوا يدعون أنهم أبناء الله على الحقيقة. وإنما كُذبوا على أنهم أصفياء الله وأحباؤه، بقوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}، فالحبيب لا يعذب حبيبه ولا صفيه] انتهى كلام الأستاذ ضياء القدسي.
قلت: بل توجد آيات مكية كثيرة تنكر على من نسب إلى الله الولد، وعلى الذين خرقوا له بنين وبنات بغير علم،... إلخ. والتبني نوع مخصوص من الاصطفاء، وليس هو عين الاصطفاء، وكان المتبنى يحمل اسم متبنيه، وينتسب إليه، ويتوارثان، كابن الصلب تماماً، حتى نسخ هذا في السنة الخامسة للهجرة، أو بعدها بنزول الآيات الشهيرة في سورة الأحزاب.
ومن أوضح ذلك قوله، جل جلاله، وسما مقامه: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، (التوبة؛ 9: 29 - 31). فأنكر عليهم ذات التسمية: (ابن الله)، وجعلها مضاهاة لقول الكفار السابقين، فهي من أقوال الكفار، ومن جرأتهم وقلة أدبهم الخبيثة في الكلام عن الله، وأن كل ذك إفك وافتراء، لذلك قال: {قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، ولم يزد، ولم يذكر شركاً أو كفراً؛ ثم شدَّد النكير، وصعَّد التصنيف، فعقب بما هو كفر وشرك متيقن، ألا وهو اتخاذ الأحبار والرهبان والمسيح بن مريم (أرباباً) من دون الله، وحتى لا تبقى شبه في معنى الربوبية ها هنا، وأنها متلازمة مع الألوهية، قال: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وفي هذا أيضاً بيان جلي أنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد.
ولعلنا نلاحظ أنه، جل جلاله، وسما مقامه، لم يكرر ذكر عزير، كما فعل بالنسبة للمسيح بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، مما يشعر بأن مقولة اليهود: (عزير ابن الله)، وإن تطابقت في اللفظ مع مقولة النصارى، إلا أنها لا تعبر عن نفس المعتقد: فمقولة اليهود: إفك وافتراء، ومضاهاة لقول الكفار السابقين، فقط والله أعلم، أما مقولة النصارى فهي كذلك، وزيادة: تعبر عن اعتقاد معين جعل المسيح بن مريم إلاهاً ورباً من دون الله.
فلعلنا إذاً نستخير الله ونقول:
أولاً: أن معتقد اليهود، أو بعض فرق اليهود، في عزير إنما هو بنوة (التبني)فقط، وليس بنوة (الصلب) أي الانتماء إلى (العنصر، أو الجوهر أو النسب الإلاهي)؛
ثانياً: أن القول ببنوة (التبني) إنما هو بدعة ابتدعوها، مضاهاة لقول الكفار السابقين، وما أمروا بها قط؛ كما أنه ليس في نص القرآن ما يشعر بأنهم أمروا بتركها قبل نزول القرآن؛
ثالثاً: أن القول ببنوة (التبني)، وإن كان مضاهاة لقول الكفار السابقين، قبل نزول القرآن، ليس من أقوال الكفر، وإن كان في أصله ومنشئه من أقوال الكفار، فليست كل أقوال الكفار كفراً (ولا العكس: فليس كل من قال بمقولة كفر أصبح بعينه كافراً!).
أما بعد نزول القرآن، لما سبق ذكره، ولقوله، تباركت أسماؤه: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، (الزمر؛ 39: 4).
وقد قلنا في كتاب التوحيد بعد هذه الآية مباشرة ما نصه: [فهذا تقدير امتناع لامتناع من أوضح ما يكون: فلو فرض المحال، جدلاً، أن الله يشتهي الولد، ويريد أن يتخذ ولداً، تعالى وتقدس عن تلك الشهوات والإرادات، لما كان في الإمكان أكثر من أن «التبني»، أي أن «يصطفي» من مخلوقاته ما يشاء اصطفاءً خاصاً، فقط لا غير. أما ولد للصلب فمحال، وأما تبني كائنا إلاهيا آخر فيصبح ولداً متبنىً فمحال أيضاً، إذا ما ثم إلا كائن إلاهي واحد، فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان، هو الله العزيز الحكيم. وهذا هو قولنا الذي سلف، حرفاً بحرف، فالحمد لله الذي أنزل الذكر، قرآناً وسنة، شفاءً لما في الصدور، وهدىً ورحمة لقوم يوقنون.
وهذا الهدى والنور الذي أنزله الله على خاتمة أنبياء الله، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، يبين أيضاً أن الله، جل جلاله، لا يشتهي الولد أصلاً، ولا يريده، ومن ثم فهو لا «يتبنى» مطلقاً، قلا يجوز أن يوصف إنسان من البشر في الأرض، أو ملك من ملائكة السماء، أو أي مخلوق آخر، بأنه «ابن» الله، أو «بنت» الله. لذلك فإن القول بأن المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، ابن الله، حتى بمعنى «التبني» هذا، باطل، ومن قال به بعد نزول القرآن فهو كافر لأنه مكذب لله تعالى]، انتهى النص المنقول.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-21-2012, 03:50 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

ومع ذلك فإني شاكر ومقدر للأستاذ ضياء القدسي إثارة هذه القضية لأن نقاشها أوضح أن مقولتنا: (من قال به بعد نزول القرآن فهو كافر لأنه مكذب لله تعالى)، وإن كانت صحيحة راجحة، إن شاء الله، بمجموع الأدلة آنفة الذكر، إلا أنها ليست قطعية، لعدم سلامة كل دليل بمفرده من المعارضة، وإمكانية التأويل، وسنذكر هذا التفصيل والاحتياط في كتاب التوحيد، إن شاء الله.
والعجيب أن هذه البلورة، وهذا التصحيح، على العكس تماماً ما يريده الأستاذ ضياء القدسي، كما يبدو من كلامه، حيث قال: [يفهم من كلامك أيضاً: أن القول بأن المسيح عيسى عليه السلام، هو ابن الله، بمعنى «التبني» قول باطل ولكن لا يكفر قائله إلا بعد نزول القرآن. وعلة الحكم بكفره أنه مكذب لما جاء في القرآن. يعني لا يكفر حتى تقام عليه الحجة من القرآن. فمن لم تصله الآية التي تبين بأن عيسى عليه السلام ليس ابن الله بمعنى (التبني) وينكرها فهو ليس بكافر ولا بمشرك عند الأستاذ المسعري.
فلا النصراني قبل الرسالة المحمدية الذي يعتقد أن عيسى عليه السلام هو ابن الله بمعنى (التبني) مشرك كافر بهذا الاعتقاد، ولا بعد الرسالة المحمدية من لم تصله الآية التي في القرآن التي تبين أن عيسى عليه السلام ليس ابن الله بمعنى (التبني) مشرك كافر عند الأستاذ المسعري، لأنه لم يكذب ما وصله من كتاب الله ولم تُقَم عليه الحجة بذلك. فما دام لم يصل لأحد الآية من كتاب الله التي تبين أن عيسى عليه السلام ليس ابن الله بمعنى (التبني) فمعتقد ذلك ليس بكافر ولا مشرك وإن كان اعتقاده باطل. هذه عقيدة الأستاذ المسعري حسب هذا الكلام]، انتهى كلام الأستاذ ضياء القدسي.
فأقول: نعم، هذا هو الحق المبين الذي ندين الله به؛ ونصيحتي للأستاذ ضياء القدسي أن يتقي الله في المسلمين خاصة، وفي بني آدم عامة، وأن ينخلع من لوثة الغلو والتكفير؛ وأن يعلم علم يقين أن الله، جل وعز، قادر بمفرده على الحكم بإدخال الناس النار، أو إجارتهم منها، ويعلم تماماً كيف يملؤها، ولن يحتاج إلى رأي المسعري أو رأي الأستاذ ضياء القدسي!!!

وقبيل ذلك بقليل قال الأستاذ ضياء القدسي: [3 - قولك: "غير أن طوائف من النصارى، من أتباع آريوس وكذلك أغلب اليهود المتنصرين الأوائل، قد قالوا بذلك قديماً. وهم بذلك مخطؤون، إلا أنهم ليسوا مشركين". أقول (ضياء الدين): كيف عرفت يا أستاذ أن أتباع آريوس وأغلب اليهود المتنصرين الأوائل الموحدين قد قالوا بأن عيسى عليه السلام ابن الله بمعنى «التبني»؟! فهذه أمور غيبية فهل جاء في ذلك خبر صحيح عن الله أو عن رسوله، صلى الله عليه وسلم،؟!! وأنت القائل في كتابك: "ومن قبل بدعوى، حتى ولو كانت صحيحة في ذاتها، بغير برهان، فهو متقول بغير دليل، وهو من ثم كاذب، حتى ولو كانت المقولة في ذاتها صادقة، لأن من لم يأت بالبرهان كاذب: (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!): أي إن كنت صادقاً فأرني برهانك، وإلا فأنت كاذب، لأنه ليس ثمة إلا: صادق أو كاذب، لا ثالث لهما!" اهـ]، انتهى كلام الأستاذ ضياء القدسي.
أقول: أحوال المتنصرين الأوائل، وفرقهم، وأقوالهم المكتوبة، وردود خصومهم عليهم كتابة، وفرق اليهود والوثنيين المعاصرين لهم، وما دار بينهم من صراع، معلوم، في الجملة، من التاريخ بالتواتر. فلم يكن القوم ملائكة يطيرون في السماء، ولا من قبيل إبليس الذين يروننا ولا نراهم، بل بشر عاشوا على الأرض، وتركوا كتباً وآثاراً، ونحن لا نحتاج إلى خبر صحيح عن الله أو عن رسوله، صلى الله عليه وسلم، يخبرنا عنهم، وحسبنا قوله، جل جلاله، وسما مقامه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، (يوسف؛ 12: 109)؛ وقال أيضاً: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؛ (غافر؛ 40: 82)؛ وقد فعل الناس، وفعلنا ذلك، ولخصناه في فقرة قصيرة، وليس كتابنا كتاب تأريخ لأقوال فرق النصارى حتى يلزمنا التأصيل والبرهنة المفصلة.
فليست أحوالهم (أمور غيبية)، كما أفحش الأستاذ ضياء القدسي: فبدلاً من أن يعترف بجهله، ويسأل عن المستندات والمراجع، جعل القضية (غيبية)، ولا نستبعد أن يجعلها بعد مدة من أمور (العقيدة)، ثم ينطلق مسلسل التبديع والتكفير بعد ذلك.
وحسب الأستاذ ضياء القدسي أن يبحث في جوجل تحت لفظة (آريوس، أريوس، الأريوسية)؛
وكذلك بالإنجليزية تحت مفاتيح البحث: (Arius; Arians; Arianism; Semi - Arianism)؛ ولو فعل، لوجد الكثير، ولنطلق منه إلى الأكثر، إذا كان مهتماً بهذه القضايا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولعلنا نضع الأستاذ ضياء القدسي على أول الطريق، طريق البحث والتنقيب، وطلب العلم كما ينبغي، بتقديم بعض النصوص في الملحق مرتبة حسب تاريخ وفاة قائليها، وكلهم من أهل الإسلام، بل من أئمة أهل الإسلام، ابتداءً بأبي محمد علي بن حزم، رضي الله عنه (المتوفى: 452 هـ)، حاشا غريغوريوس (واسمه في الولادة يوحنا) ابن أهرون (أو هارون) بن توما الملطي، أبو الفرج المعروف بابن العبري (المتوفى: 685 هـ)؛ واختتمنا بنقل مقال جيد للدكتور سفر بن عبد الرحمن، وإن كنا نعيب عليه خلط أحكام الصور والتماثيل، بقضايا التوحيد والشرك، ولا عجب فهو لا يستطيع فكاكاً من هوس الدعوة الوهابية!
فعجز الأستاذ ضياء القدسي في التعامل مع هذه البديهيات دليل سابع على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي!

ثم أماط الأستاذ ضياء القدسي اللثام، وأظهر مقصده الحقيقي من كل هذا الجدل الطويل العريض، فقال بعد أن ساق كلامنا عن توحيد الذات، الذي هو رأس التوحيد: [حسب هذا الكلام: الاعتقاد بأن الله لم يتولد منه شيء داخل في توحيد الذات الذي هو رأس التوحيد. والذي هو ثابت بالضرورة وبالبراهين العقلية والفطرية القاطعة، قبل ورود الشرع. ومع ذلك يعذر الأستاذ المسعري من نقض هذا التوحيد بقوله في كتابه: "وحتى من قال بـ «البنوة» الحقيقية، وهي مقول شرك وكفر بذاتها، كثير منهم قد يكون معذوراً بجهل أو تأويل، أو بعض موانع التكفير المعروفة". فمثل هذا عند الأستاذ المسعري معذور بالجهل والتأويل ويعتبره من الموحدين حتى تقام عليه الحجة من كتاب الله. فإن أقيمت عليه الحجة من القرآن الكريم وأنكر ذلك فعندها فقط يصبح كافراً مشركاً. يعني أن من نقض توحيد الذات وأخل في رأس التوحيد يمكن أن يكون موحداً عند الأستاذ المسعري.
4 - عند الأستاذ المسعري من يقول بـ «البنوة» الحقيقية أي ينسب لله ولداً «حقيقياً»، أي من طبيعة أو عنصر إلهي، مساوياً لأبيه في الجوهر، كما فعل المثلثون، يعذر بالجهل أو التأويل، ويبقى موحداً، ولكن قوله قول شرك وكفر، ولكنه لا يكفر ولا يحكم عليه بالشرك وإن اعتقد ذلك حتى تبزغ شمس الرسالة المحمدية وتقام عليه الحجة من القرآن الكريم ويرد ذلك.
أقول (ضياء الدين): هل يختلف رأس التوحيد (توحيد الذات) الذي جاء به عيسى عليه السلام عن رأس التوحيد (توحيد الذات) الذي جاء به رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام حتى نظل نعذر معتقد «البنوة» الحقيقية بالجهل والتأويل حتى تبزغ شمس الرسالة المحمدية وتقام عليه الحجة من القرآن الكريم؟
فما دمتَ تعذر بالجهل والتأويل من اعتقد «البنوة» الحقيقية لله، أي نسب لله ولداً «حقيقياً» فلا بد لك أن تعذر بالجهل والتأويل من لم يجزم بأن الله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وهو وحده واجب الوجود، الغنى بذاته، الأزلي القديم، الأول الموجود بغير ابتداء قبل جميع الأزمنة والدهور، الدائم الباقي بغير انتهاء بعد انقضاء الأزمنة والأيام والعصور، لأن كل هذه داخلة أيضاً في توحيد الذات مثلها مثل مسألة أن الذات الإلهية لا يتولد منه شيء.
فهل من لا يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله حي قيوم معذور بالجهل والتأويل ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة الرسالية المحمدية.؟!!
وهل من لا يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله بكل شيء عليم معذور بالجهل والتأويل ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة الرسالية المحمدية.؟!!
وهل من لا يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله الغنى بذاته، الأزلي القديم، الأول الموجود بغير ابتداء قبل جميع الأزمنة والدهور، الدائم الباقي بغير انتهاء بعد انقضاء الأزمنة والأيام والعصور، معذور بالجهل والتأويل ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة الرسالية المحمدية.؟!
إن قلت غير معذور فلمَ فرقت بين هذا ومسألة اعتقاد «البنوة» الحقيقية بعيسى عليه السلام؟!
وإن قلتَ: معذور بالجهل والتأويل ويبقى موحداً معذوراً بجهله وتأويله ولا يحكم عليه بالشرك والكفر حتى تقام عليه الحجة الرسالية المحمدية، فقد حكمت بإسلام من لم يحقق رأس التوحيد، وبهذا خالفت محكم آيات كتاب الله]، انتهى كلام الأستاذ ضياء القدسي، وإن كان بعض التسطير والتسويد من عندنا.

قلت: حسبنا هذه الجملة القصيرة لبيان الخلل الجوهري في تفكير الأستاذ ضياء القدسي: (يعني أن من نقض توحيد الذات وأخل في رأس التوحيد يمكن أن يكون موحداً عند الأستاذ المسعريوبرهان على أنه صاحب هوى، أعماه الهوى عن رؤية ما لا يقل وضوحاً عن الشمس في رابعة النهار: فوالله، الذي لا إله إلا هو، ما قلنا قط أن (من نقض توحيد الذات وأخل في رأس التوحيد يمكن أن يكون موحداً)، ومن المحال الممتنع أن يكون مثل هذا مسلماً موحداً؛ وإنما قلنا فقط أن من قال بمقولة كفر، أو عمل عملاً من أعمال الكفر، وإن جرت عليه أحكام الكفار في الدنيا في الأنكحة والذبائح والدفن والمواريث والعقوبات، كما هو مفصل في كتب الفقه، ليس هو بالضرورة (الكافر) المستحق للعقوبة الأخروية، كما هو في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}، (البقرة؛ 2: 161 - 162)؛ وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}، (آل عمران؛ 3: 91)؛ وغيرها كثير.

ولم يترك الله، جل جلاله وسما مقامه، هذا الأمر من غير بيان، حتى نحتاج إلى مزاعم المسعري، أو وساوس الأستاذ ضياء القدسي، فأبان ذلك لنا، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)}، (الأحزاب؛ 33: 64 - 68)، فهؤلاء جاءهم رسول فعصوه،
ــ وقوله: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}، (الملك؛ 67: 6 - 11)؛ ومعلوم أن قوله جلَّ وعلا: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} يعم جميع الأفواج الملقين في النار. قال أبو حيان في «البحر المحيط» في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه: «وكلما» تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين. ومن ذلك قوله جلَّ وعلا: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، (الزمر؛ 39: 71)، وقوله في هذه الآية: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} عام لجميع الكفار؛ وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كـ(الذي) و(التي) وفروعهما من صيغ العموم. لعمومها في كل ما تشمله صلاتها. قال في مراقي السعود في صيغ العموم:
صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع
فهؤلاء كلهم جاءتهم النذر فكذبوها، وقامت عليهم الحجة، واعترفوا بذنبهم، وفرغ من أمرهم؛
ــ وأيضاً قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؛ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ؟! فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}، (فاطر؛ 35: 37)، عام أيضاً في جميع أهل النار. كما تقدم قريباً.
ــ وقال، جل جلاله وسما مقامه، أيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)}، (غافر؛ 40: 49 - 50)، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في الدنيا.
ــ وقال، جل جلاله وسما مقامه، أيضاً: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}، (محمد؛ 47: 8 - 9)، ومن المحال الممتنع أن يكره الإنسان شيئاً لم يبلغه ولم يعرفه.

ولم يغب عنا أن جماعة أخرى ممن ينتسبون إلى العلم قد ذهبت إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير، واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله، وبأحاديث عن النَّبي، صلى الله عليه وسلم،. فمن الآيات التي استدلوا بها:
ــ قوله تعالى: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، طبعا بعد بتر الآية، عياذاً بالله، وإخراجها من سياقها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}، (النساء؛ 4: 18)؛
ــ وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، وإليك تمام السياق: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162)}، (البقرة؛ 2: 159 - 162)؛
ــ وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}، وإليك تمام السياق الذي بتره هؤلاء، بترهم الله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91)}، (آل عمران؛ 3: 85 - 91)؛

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07-21-2012, 03:51 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

ــ وقوله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، وإليك تمام السياق حتى تعرف حجم جناية هؤلاء المخذولين على الإسلام والقرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51)}، (النساء؛ 4: 47 - 51)؛
ــ وقوله: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}، وإليك السياق: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}، (الحج؛ 22: 25 - 32)؛
ــ وقوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ}، وإليك تمامه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)}، (المائدة؛ 5: 72)،
ــ وقوله: {قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، وإليك أيضاً تمامه: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، (الأعراف؛ 7: 50)، إلى غير ذلك من الآيات التي يحرصون على سوقها مبتورة، منزوعة من سياقها.

فما زاد هؤلاء المخذولون من أدعياء العلم على أن ضربوا عرض الحائط بقوله، جل جلاله، وسما مقامه: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}، (آل عمران؛ 3: 7)، فاتبعوا طريق هلكة: طريقة أهل الزيغ المتبعين لما تشابه منه؛ ومعلوم بضرورة الحس والعقل، التي بني عليها الشرع، أن العام يحتمل التخصيص، وأن المطلق يحتمل التقييد، وأن المجمل يحتاج إلى تفسير، فلو سلمنا جدلاً أن العام والمطلق والمجمل من المتشابه، فالتخصيص والتقييد والتفسير إحكام له، لأنه يرفع الاشتباه: فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟؟!!

فالواجب هو الإيمان بكل ما جاء عن الله، وتفسيره بحيث يصدق بعضه بعضاً: فما أجمل ها هنا، فسر هناك، والعموم في هذه الآية، جاء بيان مخصص له في تلك، وهكذا، وهكذا.
وكل الكفار المعذبين قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الرسالة، واعترفوا بذنبهم، {فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ}: والجاهل ليس مذنباُ، والمكره ليس مذنباً، والمتأول ليس مذنباً.

وقال الأستاذ ضياء القدسي: [ماذا تقصد من قولك: "فإلى الله ينبغي تفويض أمرهم"؟ هل تقصد أن نعذرهم بجهلهم وتأويلهم ونحكم عليهم بالتوحيد ونفوض أمر آخرتهم لله؟
إن كنت تقصد ذلك والظاهر من كلامك أنك تقصد ذلك، فهذا يعني أن من اتخذ عيسى عليه السلام وأمه إلهين من دون الله يعذر بجهله وتأويله ولا يحكم عليه بالشرك ويفوض أمره لله يوم القيامة إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بل ترجو له أن يغفر الله له.
يدل استشهادك بقول عيسى عليه السلام عمَّن اتخذه وأمه إلهين من دون الله " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " على أنك تقول بإمكانية المغفرة يوم القيامة لمن فعل الشرك الأكبر، بل ترجو ذلك. وقد قال الله سبحانه في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: 48)
وقال أيضا عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}، (النساء: 116)
أم أنك تقول أن عدم المغفرة للمشرك لم يكن يعرفها عيسى عليه السلام أو قد اختلفت الشرائع فيها كحال استعمال كلمة التبني وأن في شريعة عيسى عليه السلام إمكانية المغفرة لمن يعتقد بإلوهية عيسى عليه السلام وأمه؟؟!
للنظر كيف فسر علماء التفسير الآية التي استشهدت بها في غير موضعها]، ثم ساق كلام ابن كثير والطبري كعادته السيئة مبتوراً، مرسلاً، بدون ذكر لجزء أو صفحة، وهذا دليل ثامن على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي!

ونحن لن نفعل ذلك بل سنسوقها مسندة، وسنسوق بإذن الله غيرها، ولكن إليك الآيات الكريمات في تمام سياقا:
حيث قال الله، تعالى ذكره: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)}، (المائدة؛ 5: 109 - 119).
هذا الحوار كله يوم القيامة، وإن ذكرت فيه أمور وقعت ومضت في الدنيا، في مثل قوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً}،... إلى قوله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ}.

جاء في تفسير البغوي [إحياء التراث (2/105)]: [قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، اختلفوا فِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَتَى يَكُونُ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ حَرْفَ إِذْ يَكُونُ لِلْمَاضِي، وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا يَقُولُ اللَّهُ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [الْمَائِدَةِ: 109]، وقال من بعد هَذَا: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَةَ: 119]، وَأَرَادَ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ تَجِيءُ (إِذْ) بِمَعْنَى إِذَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا [سبأ: 51]، أَيْ: إِذَا فَزِعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْقِيَامَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَعْدُ وَلَكِنَّهَا كَالْكَائِنَةِ لِأَنَّهَا آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ]؛ فقول السدي شاذ، بل هو منكر، وهو من زلات العلماء القبيحة التي يستعاذ بالله منها.

وإليك الآن كلام الطبري كما هو في تفسير الطبري - جامع البيان [ت شاكر (11/240)]: [القول في تأويل قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}. قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها "فإنهم عبادك"، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به "وإن تغفر لهم"، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم "فإنك أنت العزيز"، في انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه "الحكيم"، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب، كالذي: -
13037 - حثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم"، فتخرجهم من النصرانية، وتهديهم إلى الإسلام "فإنك أنت العزيز الحكيم". وهذا قول عيسى في الدنيا.
13038 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"، قال: والله ما كانوا طعَّانين ولا لعَّانين]، انتهى كلام الطبري،
وتجد كلام السدي في روايتين عند ابن أبي حاتم:
فقد جاء في تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1255/7060): [حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، حدثنا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ يَقُولُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ تُمِيتُهُمْ بِنَصْرَانِيَّتِهِمْ فَيَحِقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ]
وجاء في تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1255/7062): [أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، حدثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَتُخْرِجْهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَتَهْدِيهِمْ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هَذَا قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الدُّنْيَا]

قبول الإمام الطبري لرأي السدي، وقوله، بناءً على ذلك تفسيراً للآية: (إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها "فإنهم عبادك"، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به "وإن تغفر لهم"، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم "فإنك أنت العزيز"، في انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه "الحكيم"، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب)، وقد جاء خلاف عوائد الإمام الطبري الجميلة، كلام سقيم باطل، أضاف جملاً مثل: (بإماتتك إياهم عليها)، و(بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم) من خياله الجامح، لا وجود لها في النص المنزَّل أصلاً، ولم تلجئ إليها ضرورة من الشرع، أو من الحس والعقل. واستند في ذلك على رواية سقيمة عن السدي، وإن كان السدي أحسن حالاً من الطبري بعض الشيء لأنه زعم أن ذلك هو (قول عيسى في الدنيا).
ولعل السدي اعتمد على ما جاء عن سلمان الفارسي، رضوان الله وسلامه عليه:
ــ كما جاء في تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1255/7059): [أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حدثنا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانِ الْخَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا سَأَلَ الحواريون عيسى بن مريم المائدة - أوحى الله إلى عيسى بن مَرْيَمَ أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِالْمَائِدَةِ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ: فَقَالَ عِيسَى مُسْتَكِينًا لِرَبِّهِ إِلَهِي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَلَمَّا أَمْسَى الْمُرْتَابُونَ بِهَا، وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ مَعَ نِسَائِهِمْ آمِنِينَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ مَسَخَهُمُ اللَّهُ خَنَازِيرَ، وَأَصْبَحُوا يَتَتَبَّعُونَ الأَقْذَارَ فِي الْكُنَاسَاتِ، وَأَمَّا سَائِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُطِيفُونَ بِعِيسَى خَوْفًا وَرُعْبًا مِمَّا لَقِيَ أَصْحَابُهُمْ]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 07-21-2012, 03:52 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

ــ وجاءت القصة في تفسير البغوي - إحياء التراث (2/103) مطولة شنيعة: [وَقَالَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: لَمَّا سَأَلَ الْحَوَارِيُّونَ الْمَائِدَةَ لَبِسَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صُوفًا وَبَكَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ، فَنَزَلَتْ سُفْرَةٌ حَمْرَاءُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ غَمَامَةٍ مِنْ فَوْقِهَا وَغَمَامَةٍ مِنْ تَحْتِهَا وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَهِيَ تَهْوِي مُنْقَضَّةً حَتَّى سَقَطَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَبَكَى عِيسَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الشَّاكِرِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا عُقُوبَةً، وَالْيَهُودُ يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ وَلَمْ يَجِدُوا رِيحًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِهِ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِيَقُمْ أَحْسَنُكُمْ عَمَلًا فَيَكْشِفُ عَنْهَا وَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ شَمْعُونُ الصَّفَّارُ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ: أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَّا، يا نبيّ الله، فَقَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى صَلَاةً طَوِيلَةً وَبَكَى كَثِيرًا، ثُمَّ كَشَفَ الْمِنْدِيلَ عَنْهَا، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الرَّازِقِينَ فَإِذَا هُوَ سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا فُلُوسُهَا وَلَا شَوْكَ عَلَيْهَا تَسِيلُ مِنَ الدَّسَمِ وَعِنْدَ رَأْسِهَا مِلْحٌ وَعِنْدَ ذَنَبِهَا خَلٌّ، وَحَوْلَهَا مِنْ أَلْوَانِ الْبُقُولِ مَا خَلَا الْكُرَّاثَ، وَإِذَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ عَلَى وَاحِدٍ زَيْتُونٌ، وَعَلَى الثَّانِي عَسَلٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ سَمْنٌ، وَعَلَى الرَّابِعِ جُبْنٌ، وَعَلَى الْخَامِسِ قَدِيدٌ، فَقَالَ شَمْعُونُ: يَا رُوحَ اللَّهِ أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا هَذَا أَمْ مِنْ طَعَامِ الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا تَرَوْنَ مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ طَعَامِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ الْغَالِبَةِ، كُلُوا مِمَّا سَأَلْتُمْ يَمْدُدْكُمْ وَيَزِدْكُمْ من فضله، فقالوا: يَا رُوحَ اللَّهِ كُنْ أَوَّلَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ آكُلَ مِنْهَا وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهَا مَنْ سَأَلَهَا فَخَافُوا أَنْ يَأْكُلُوا منها، فدعا لها عيسى أَهْلَ الْفَاقَةِ وَالْمَرْضَى وَأَهْلَ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْمُقْعَدِينَ وَالْمُبْتَلِينَ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَكُمُ الْمَهْنَأ وَلِغَيْرِكُمُ الْبَلَاءُ، فَأَكَلُوا وَصَدَرَ عَنْهَا أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ فَقِيرٍ وَمَرِيضٍ وَزَمِنٍ وَمُبْتَلًى كُلُّهُمْ شبعان، وإذ السمكة كهيئتها حين نزلت، ثم طارت الْمَائِدَةِ صُعُدًا وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا حتى توارت بالحجاب، فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا زَمِنٌ وَلَا مَرِيضٌ وَلَا مُبْتَلًى إِلَّا عُوفِيَ وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا اسْتَغْنَى وَنَدِمَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا فَلَبِثَتْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَنْزِلُ ضُحًى، فَإِذَا نزلت اجتمع الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَلَا تَزَالُ مَنْصُوبَةً يُؤَكَلُ مِنْهَا حَتَّى إِذَا فَاءَ الْفَيْءُ طارت صعدا وهم ينظرون إليها فِي ظِلِّهَا حَتَّى تَوَارَتْ عَنْهُمْ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ غِبًّا تَنْزِلُ يَوْمًا وَلَا تَنْزِلُ يَوْمًا كَنَاقَةِ ثَمُودَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اجْعَلْ مَائِدَتِي وَرِزْقِي لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ حَتَّى شَكُّوا وَشَكَّكُوا النَّاسَ فِيهَا، وَقَالُوا: أَتَرَوْنَ الْمَائِدَةَ حَقًّا تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِّي شَرَطْتُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وَثَلَاثُونَ رَجُلًا بَاتُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ على فراشهم مَعَ نِسَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ يَسْعَوْنَ في الطرقات والكنّاسات، ويأكلون القذرة فِي الْحُشُوشِ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ فَزِعُوا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَكَوْا، فَلَمَّا أَبْصَرَتِ الْخَنَازِيرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَكَتْ وَجَعَلَتْ تُطِيفُ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ عِيسَى يَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيُشِيرُونَ بِرُؤُوسِهِمْ وَيَبْكُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ، فَعَاشُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا]!!!؛ وهو في العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (5/1534): [حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ لَيْثٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ مِنَ الْمُصَلِّيِينَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْعَبْدَرِيُّ مَوْلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ الصَّنْعَانِيُّ الْمُجَدَّرُ يَسْكُنُ صَنْعَاءَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْخَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بنحوه أو أطول منه]؛ وهو في الفوائد الشهير بالغيلانيات لأبي بكر الشافعي (2/822/1135): [حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا عَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ بنحوه]؛ وهو في فنون العجائب لأبي سعيد النقاش (ص:99/82): [أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ تَمِيمٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ الْخَوْلَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ بنحوه]؛
ولم يعقب الإمام البغوي بشيء، بخلاف الإمام ابن كثير الذي قال: (هذا أثر غريب جدا قطّعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل، والله. سبحانه وتعالى أعلم)، في «التفسير» (2/152، 154) ونسبه لابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سلمان الخير. وهذا يبين لك البون الشاسع بين فهم وعقل الرجلين: فهم وعقل البغوي، وفهم وعقل ابن كثير!

ــ أو لعل السدي اعتمد على نحو ما أخرجه الترمذي في سننه (ج5/ص260/ح3061): [حدثنا الحسن بن قزعة حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا سعيد عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير)]؛ قال أبو عيسى: (هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر موقوفا، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث الحسن بن قزعة؛ حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا)؛ وأخرجه أبو يعلى في مسنده (ج3/ص213/ح1651) بعينه؛ والذي يظهر لي أن عماراً، رضي الله عنه، إنما أخذه من سلمان، فإنهما كانا خليلين.
قلت: لو ثبت هذا عن سلمان الخير بنقل التواتر لما كان فيه أي حجة، فليس سلمان شاهد عيان لهذا، ولا أبوه، ولا جده، ولا حتى جده العاشر، فما هي إلا أسطورة نصرانية، أو خرافة عربية. ولو كان ثمة مسخ لأحد زمن عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، لسارت به الركبان، ولنقل إلينا نقل التواتر!!!

أما قول قتادة فهو ليس من هذا الباب أصلاً، وإنما برر كلام عيسى بأنه لم يكن (طعاناً ولا لعَّاناً) فقط، فجعل الموضوع في باب الآداب، ولم يخض في إشكاليات العقائد.
وقد ساق الطبري كلام قتادة بتمامه في موضع آخر من تفسير الطبري - جامع البيان [ت شاكر (17/18)]: [وقوله (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) يقول: فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان، فإنه مني: يقول: فإنه مستنّ بسنَّتِي، وعامل بمثل عملي (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك، ورحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم.
كما حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم لا والله ما كانوا طَعَّانين ولا لعَّانين، وكان يقال: إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
حدثني المثنى، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج، قال: أخبرني ابن وهب، قال: حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة، حَدثه عن عبد الرحمن بن جُبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلا قول إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقال عيسى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه ثم قال: اللَّهُمَّ أُمَّتِي، اللَّهُمَّ أُمَّتِي، وبكى، فقال اللَّه تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فاسأله ما يُبكيه؟ فأتاه جبرئيل فسأله، فأخبره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما قال، قال: فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤُك]، انتهى كلام الطبري.
وقد ناقض الطبري نفس في الموضع آنف الذكر حيث قال كلاماً خطيراً: (وقوله (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) يقول: فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان، فإنه مني: يقول: فإنه مستنّ بسنَّتِي، وعامل بمثل عملي (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك، فإنك غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك، ورحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم)!!
مع أن كلام إبراهيم كان قطعاً في الدنيا، وهو يتكلم عن معاصريه، وأغلبهم أحياء عند تلفظه بالدعاء، فلو قال الطبري مثلاً: (ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك، فإنك رحيم بعبادك تقيض لهم توبة قبل الموت، فتعفو عمن تاب منهم بفضلك)، فأضاف الإمام الطبري (من خياله طبعاً، إذ لا وجود لهذا في النص): (تقيض لهم توبة قبل الموت)، لو فعل الطبري هذا لكان، على بطلانه، أقرب لأن يقبل ويتحمَّل. فصح أن الطبري متناقض في هذه المسألة، وحتى لو لم يتناقض فلا حجة إلا في كلام الله ورسوله.

وربما عذرنا الطبري بعض العذر في قبوله كلام إبراهيم كما هو على ظاهره، مع أن الطبري لم يصرح بذلك، لأنه في الدنيا، ولأن إبراهيم ربما لم يكن يعلم بذلك بعد، كما قد يظهر من استغفاره لأبيه. مع أن هذا لا يستقيم مع قوله، جل جلاله، وسما مقامه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)}، (العنكبوت؛ 29: 24 - 26).

وإليك أيضاً ما جاء في تفسير ابن كثير [ت سلامة (3/232)] بتمامه، وليس مبتوراً كما أورده الأستاذ ضياء الدين القدسي: [هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُخَاطِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليه السلام، قَائِلًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَضْرَةِ مَنِ اتَّخَذَهُ وَأَمَّهُ إِلَهَيْنِ مَنْ دُونِ اللَّهِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلنَّصَارَى وَتَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ. هَكَذَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ قَتَادَةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}
وَقَالَ السُّدِّي: هَذَا الْخِطَابُ وَالْجَوَابُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَاحْتَجَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى ذَلِكَ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ لُفْظُ الْمُضِيِّ؛ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} و{إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}.
وَهَذَانَ الدَّلِيلَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ، لِيَدُلَّ عَلَى الْوُقُوعِ وَالثُّبُوتِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الْآيَةَ: التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَرَدُّ الْمَشِيئَةِ فِيهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيقُ ذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ، كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِيَدُلَّ عَلَى تَهْدِيدِ النَّصَارَى وَتَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رُوِيَ بِذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ ثِقَةً، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُعِيَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، ثُمَّ يُدْعَى بِعِيسَى فَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، فيقِر بِهَا، فيقولُ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 110] ثُمَّ يَقُولُ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ فَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِالنَّصَارَى فَيُسْأَلُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هُوَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، قَالَ: فَيُطَوَّلُ شَعْرُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِشَعْرَةٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ. فَيُجَاثِيهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مِقْدَارَ أَلْفِ عَامٍ، حَتَّى تُرْفَعَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيُرْفَعَ لَهُمُ الصَّلِيبُ، وَيُنْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ)، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ عَزِيزٌ]؛ إلى أن قال: [وَقَوْلُهُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ رَدَّ الْمَشِيئَةِ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، الَّذِي لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. ويتضمن التَّبَرِّيَ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَصَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًا كَبِيرًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَامَ بِهَا لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ يُرَدِّدُهَا... إلخ]

قلت: لم يطل الإمام ابن كثير في مناقشة المسألة الشائكة، ولا نبالغ أنه فر منها، ولم يواجهها، أي أنه: (رضي من الغنيمة بالفرار). كما أنه لم يبين لنا، رضي الله عنه، كيف تضمنت الآية (التَّبَرِّيَ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَصَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًا كَبِيرًا)؟! نعم: الآيات السابقة تتضمن، بل شك، تكذيب لقولهم، وتعظيم وتقديس الله عن فريتهم: هذه براءة من قولهم، والبراءة من قول أو فعل لا تقتضي ضرورة البراءة من القائل أو الفاعل، إلا عند من طمس الله على بصيرته، فقد أخرج البخاري في صحيحه (ج4/ص1577/ح4084)، و(ج6/ص2629/ح6766): [حدثني محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر وحدثني نعيم أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون: (صبأنا، صبأنا) فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي، صلى الله عليه وسلم، فذكرناه فرفع النبي، صلى الله عليه وسلم، يديه فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)، مرتين]؛ وأخرجه النسائي في سننه ج8/ص237/ح5405؛ وابن حبان في صحيحه ج11/ص54/ح4749؛ والإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج2/ص151/ح6382؛ والنسائي في سننه الكبرى ج3/ص474/ح5961، ج5/ص177/ح8596؛ والبيهقي في سننه الكبرى ج9/ص115/ح18044؛ وعبد بن حميد في مسنده ج1/ص240/ح731، والإمام عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه ج5/ص221/ح9434، ج10/ص174/ح18721: وربما غيرهم: فهل كان نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، متبرئاً من خالد بهذا؟!
وهبك تبرأت من إنسان بعينه، فهل هذا مانع من الدعاء له؟! إليك مثال إبراهيم، حيث قال الله، تقدست أسماؤه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، (الممتحنة؛ 60: 4)، والأظهر أن هذا كان قبيل هجرته من بلد ولادته، حيث قال الله، جل جلاله، وسما مقامه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)}، (العنكبوت؛ 29: 24 - 26)، ومع تلك (البراءة)، وبالرغم منها، استمر إبراهيم أزمنة طويلة بعد ذلك يدعو لأبيه خاصة، ولمن عبد الأصنام عامة، كما ورد أعلاه في دعائه عند البلدة الحرام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}، (إبراهيم؛ 14: 35 - 41) وكان نبي الله الخاتم يفعل مثل ذلك، وكذلك الصحابة، يفعلون مثل ذلك، حتى نزلت (براءة) في السنة التاسعة من الهجرة.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-21-2012, 03:53 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

فإن قيل: فقد جاء النهي عن ذلك بعد ذلك، فأقول: هذا حق يقيني مقطوع به، وهو حكم شرعي مخصوص، في دار التكليف، ليست له أي علاقة بمفهوم (البراءة) أو مفهوم (التوحيد)، وإلا لما خفي على أئمة الرشد، أرجح خلق الله عقلاً، وأعمقهم فهماً: إبراهيم ومحمد، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليهما وعلى آلهما، وعلى أصحابهما العلماء العاملين، الهداة المهتدين.

وإليك المزيد من أقوال المفسرين واضطرابهم:
ــ فقد جاء في تفسير الثعلبي [الكشف والبيان عن تفسير القرآن (4/129 - 130)]: [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وقرأ الحسن: فإنهم عبيدك وإن يتوبوا فيغفر لهم فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وقال السدي: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ وتميتهم بنصرانيتهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فَإِنَّكَ الرب الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ في الملك والنقمة، الحكيم في قضائك. {قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في الآخرة. قال قتادة: متكلمان خطها يوم القيامة وهو ما قص الله عليكم وعدو الله إبليس وهو قوله وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ فصدهم عن ذلك يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه يومئذ، وأما عيسى فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه. وقال عطاء: هذا يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة ليس فيها عمل إنما فيها الثواب والجزاء]؛ فأفادنا أن عطاءً، إن صح الخبر عنه، يرى أن ذلك كان في الدنيا، كالسدًّي تماماً.

ــ وجاء في التفسير الوسيط للواحدي (2/248): [قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية: قال الحسن وأبو العالية إن تعذبهم: فبإقامتهم على كفرهم، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] فبتوبة كانت منهم.
وقال ابن الأنباري: هذا على التبعيض، أي: إن تعذب بعضهم الذين أقاموا على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لبعضهم الذين انتقلوا عن الكفر إلى الإسلام فأنت في ذلك قاهر غالب عادل لا يعترض عليك معترض.
وهذا اختيار الزجاج لأنه قال: والذي عندي: أن عيسى عليه السلام قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر، فقال عيسى في جميعهم: إن تعذب من كفر بك فإنهم عبادك، أنت العادل فيهم، وإن تغفر لهم لمن أقلع منهم وآمن فأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك]؛ قلت: أفادنا الواحدي قول ابن الأنباري بالتبعيض، وهو في هذا موافق للزجَّاج.

ــ وجاء في تفسير السمعاني (2/83): [قَوْله - تَعَالَى -: {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ طلب الْمَغْفِرَة لَهُم، وهم كفار؟ وَكَيف قَالَ: {وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم}، وَهَذَا لَا يَلِيق بسؤال الْمَغْفِرَة؟، قيل: أما الأول فَمَعْنَى قَوْله: وَإِن تغْفر لَهُم، يَعْنِي: بعد الْإِيمَان، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على قَول السّديّ؛ لِأَن الْإِيمَان لَا ينفع فِي الْقِيَامَة، وَالصَّحِيح آخر الْقَوْلَيْنِ، قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي فريقين مِنْهُم فَقَوله: {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك} يَعْنِي: من كفر مِنْهُم {وَإِن تغْفر لَهُم} يَعْنِي: من آمن مِنْهُم. وَقَالَ أهل الْمعَانِي من أَرْبَاب النَّحْو: لَيْسَ هَذَا على وَجه طلب الْمَغْفِرَة، وَإِنَّمَا هَذَا على تَسْلِيم الْأَمر إِلَيْهِ، وتفويضه إِلَى مُرَاده؛ أَلا ترَاهُ يَقُول: " فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم " وَلَو كَانَ على وَجه طلب الْمَغْفِرَة لقَالَ: "فَإنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم"]؛
قلت: قوله: (لِأَن الْإِيمَان لَا ينفع فِي الْقِيَامَة) زعم مجرد، وهو مخالف لنصوص عدة تذكر أنواعاً من الامتحان للمعتوهين والشيوخ الخرفين وأهل الفترة. وهذه النصوص، وإن كان في أكثرها نظر، إلا أنها تشكك في صحة الزعم بأن (الْإِيمَان لَا ينفع فِي الْقِيَامَة)، ولعلنا نعود إلى أحوال الأطفال، والمجانين، وأهل الفترة، ومن ولد أصماً أبكماً في موضع آخر.

ــ وجاء في غرائب التفسير وعجائب التأويل لمحمود بن حمزة بن نصر، أبي القاسم برهان الدين الكرماني، ويعرف بتاج القراء (المتوفى: نحو 505هـ) (1/348): [قوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الآية. قوله في الآية (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) على قول السدي وصاحبيه ظاهر، لأنهم كانوا بعْدُ أحياء، ومن جعله في القيامة، ففيه إشكال. المبرد: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ما قالوا عليَّ خاصة. الزجاج: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لمن أقلع منهم وآمن. العجيب: قيل: جائز أن يكون الله لم يُعْلِمْ عيسى أنه لا يغفر الشرك. وهذا بعيد، ويحتمل معنى دقيقا، وهو: أنَّ قولَه: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) شرط، وقوله: (فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) جزاؤُه، فالعبودية صارت معلقة بالتعذيب، وهذا ليس بالسهل، لأن الظاهر يقتضي أن لا يكونوا عباده إذا لم يعذبهم، فاستدرك بقوله: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) والمراد به: وإن لم تعذبهم لا سؤال المغفرة لهم، ولهذا لم يختم الآية بالغفران والرحمة، بل قال: (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، ومثله من الفقه، إن دخلت الدار فأنتَ حرٌّ وإن لم تدخل. عُتِقَ في الحال، لأن هذا كلام من شرط ثم أنجز - والله أعلم]؛ قلت: القول: (جائز أن يكون الله لم يُعْلِمْ عيسى أنه لا يغفر الشرك) هراء محض عند من استحضر قوله، جل جلاله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)}، (المائدة؛ 5: 72)!!!
ــ وجاء في تفسير البغوي - إحياء التراث (2/105 - 106): [قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَكَيْفَ قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِسُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ، قِيلَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَعْنَاهُ إِنَّ تُعَذِّبْهُمْ بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بعد الإيمان، وهذا يستقيم عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ: إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْقِيَامَةِ، وقيل: هذا في الفريقين مِنْهُمْ مَعْنَاهُ: إِنْ تُعَذِّبْ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَغْفِرْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا عَلَى وَجْهِ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَلَوْ كان كذلك لقال: إنك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَمْرِ وَتَفْوِيضِهِ إِلَى مُرَادِهِ، وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ «وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ قِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: وإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ فِي الْمُلْكِ الْحَكِيمُ فِي الْقَضَاءِ لَا يَنْقُصُ مِنْ عِزِّكَ شَيْءٌ، وَلَا يَخْرُجُ مَنْ حكمك وَيُدْخِلُ فِي حِكْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ الْكُفَّارَ، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ خَبَرَهُ
قلت: سنعود إلى هذه الجملة الخطيرة: (لَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ خَبَرَهُ) قريباً، إن شاء الله تعالى.

ــ وجاء في تفسير الزمخشري [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/696)]: [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القوى القادر على الثواب والعقاب الْحَكِيمُ الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) «*»؟ قلت: ما قال إنك تغفر لهم، ولكنه بنى الكلام على: إن غفرت، فقال: إن عذبتهم عدلت، لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول. بل متى كان الجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن]؛ وذكر الناشر في الهامش: [«*» قال محمود: «إن قلت المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال وإن تغفر لهم... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه: تذبذب الزمخشري في هذا الموضع فلا إلى أهل السنة ولا إلى القدرية. أما أهل السنة، فالمغفرة للكافر جائزة عندهم في حكم اللَّه تعالى عقلا، بل عقاب المتقي المخلص كذلك غير ممتنع عقلا من اللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فهذا الكلام خرج على الجواز العقلي، وإن كان السمع ورد بتعذيب الكفار وعدم الغفران لهم، إلا أن ورود السمع بذلك لا يرفع الجواز العقلي. وأما القدرية فيزعمون أن المغفرة للكافر ممتنعة عقلا، لا تجوز على اللَّه تعالى لمناقضتها الحكمة، فمن ثم كفحتهم هذه الآية بالرد، إذ لو كان الأمر كزعمهم لما دخلت كلمة «إن» المستعملة عند الشك في وقوع الفعل بعدها لغة في فعل لا شك في عدم وقوعه عقلا، ولكان ذلك من باب التعليق بالمحال، كأن يبيض القار وأشباهه. وليس هذا مكان. فقول الزمخشري إذاً (إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لم يعدم وجها من الحكمة في المغفرة لأن العفو عن المجرم حسن عقلا لا يأتلف بقواعد السنة، إذ لا يلتفت عندهم إلى التحسين العقلي، ولا يأتلف أيضا بنزغات القدرية، لأنهم يجزمون بأنه لا وجه من الحكمة في المغفرة للكافر، ويقطعون بمنافاتها الحكمة، فكيف يخاطب اللَّه تعالى به، فعلم أن عيسى عليه السلام يبرأ إلى اللَّه من هذا الإطلاق ومما اشتمل عليه من سوء الأدب، فان قول القائل لمن يخاطبه: ما فعل كذا فلن يعدم فيه عذراً ووجهاً من المصلحة كلام مبذول وعبارة نازلة عن أوفى مراتب الأدب، إنما يطلقها المتكلم لمن هو دونه عادة، فنسأل اللَّه إلهام الأدب وتجنب ما في إساءته من مزلات العطب]؛ قلت: (محمود) هو الزمخشري، و(أحمد) هو ابن المنير الإسكندري، علماً بإن الكتاب المطبوع مذيل بحاشية (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف) لابن المنير الإسكندري (ت 683) وتخريج أحاديث الكشاف للإمام الزيلعي.

ــ وقال أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفى: 745هـ) في البحر المحيط في التفسير (4/419): [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَالَّذِينَ عَذَّبْتَهُمْ جَاحِدِينَ لِآيَاتِكَ، مُكَذِّبِينَ لِأَنْبِيَائِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ وَصَوَابٍ. بِالْعَذَابِ، وَإِنْ غَفَرْتَ لَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، لَمْ تَعْدَمْ فِي الْمَغْفِرَةِ وَجْهَ حِكْمَةٍ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ حَسَنَةٌ لِكُلِّ مُجْرِمٍ فِي الْمَعْقُولِ، بَلْ مَتَى كَانَ الْمُجْرِمُ أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ أَحْسَنَ. وَهَذَا مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَيْلٌ إِلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ غُفْرَانَ الْكُفْرِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ عَقْلًا، قَالُوا: لِأَنَّ الْعِقَابَ حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى الذَّنْبِ وَفِي إسقاطه مَنْفَعَةٍ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّهِ مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا وَدَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَعَلَّ هَذَا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، انْتَهَى كَلَامُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: مَقْصُودُ عِيسَى تَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ: قَادِرٌ عَلَى مَا تُرِيدُ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْكَ. وَقِيلَ لَمَّا قَالَ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الْآيَةَ.
عُلِمَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصَارَى حَكَوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُ وَالْحَاكِي هَذَا الْكُفْرَ لَا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ مُذْنِبًا حَيْثُ كَذَبَ وَغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ فَلِهَذَا قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ عِنْدَ عِيسَى أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا الْمَعَاصِيَ وَعَمِلُوا بَعْدَهُ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ عَلَى عَمُودِ دِينِهِ، فَقَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَا أَحْدَثُوا بَعْدِي مِنَ الْمَعَاصِي وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَهُ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ كَانَ وَقْتَ الرَّفْعِ، لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَا يَدْرِي مَا يَمُوتُونَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي تُعَذِّبُهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا وَفِي وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْطَافِ لَهُمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُمْ عَصَوْكَ؟ انْتَهَى وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ الِاسْتِعْطَافَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا لِمَنْ يُرْجَى لَهُ الْعَفْوُ وَالتَّخْفِيفُ، وَالْكُفَّارُ لَا يُرْجَى لَهُمْ ذَلِكَ وَالَّذِي أَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ قَوْلٌ قَدْ صَدَرَ، وَمَعْنًى يَعْطِفُهُ عَلَى مَا صَدَرَ وَمَضَى، وَمَجِيئُهُ بإذ الَّتِي هِيَ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى وَيُقَالُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَاضِي فَجَمِيعُ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ إِذْ قَالَ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ عِيسَى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْغُفْرَانَ مُرَتَّبٌ عَلَى التَّوْبَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْآخِرَةِ، كَانُوا فِي مَعْرِضِ أَنْ يَرِدَ فِيهِمُ التَّعْذِيبُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ النَّاشِئَةُ عَنِ التَّوْبَةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْكَ مَا تُرِيدُهُ، الْحَكِيمُ فِيمَا تَفْعَلُهُ تُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ، وَقَرَأَتْ جَمَاعَةٌ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ قَالَ عياض بن موسى: وليست مِنَ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَقَدْ طَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ. مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ إِلَّا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَى نُقِلَ إِلَى مَا قَالَ هَذَا الطَّاعِنُ ضَعُفَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بِالشَّرْطِ الثَّانِي وَلَا يَكُونُ لَهُ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ تَعَلُّقٌ وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَجْمَعَ عَلَى قِرَاءَتِهِ الْمُسْلِمُونَ مَعْلُقٌ بِالشَّرْطَيْنِ كلاهما أَوَّلِهِمَا وَآخِرِهِمَا، إِذْ تَلْخِيصُهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَأَنْتَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَأَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي الْأَمْرَيْنِ كِلَاهُمَا مِنَ التَّعْذِيبِ وَالْغُفْرَانِ، فَكَانَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَلْيَقَ بِهَذَا الْمَكَانِ لِعُمُومِهِ، وَأَنَّهُ يَجْمَعُ الشَّرْطَيْنِ وَلَمْ يَصْلُحِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أَنْ يَحْتَمِلَ مَا احْتَمَلَهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ انْتَهَى. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. (فَإِنْ قُلْتَ): الْمَغْفِرَةُ لَا تَكُونُ لِلْكُفَّارِ، فَكَيْفَ قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ؟ (قُلْتُ): مَا قَالَ: إِنَّكَ تَغْفِرُ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَذَّبْتَهُمْ عَدَلْتَ لِأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ]

ــ وجاء في تفسير ابن عطية [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/263)]: [وإن تغفر لهم أي لو غفرت بتوبة كما غفرت لغيرهم فإنك أنت العزيز في قدرتك، الحكيم في أفعالك. لا تعارض على حال. فكأنه قال إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك. وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله. وهذا هو عندي القول الأرجح. ويتقوى ما بعده]

ــ وجاء في تفسير الرازي [مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (12/467)]: [فيه مَسَائِلُ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ جَازَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ واللَّه لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 116] عُلِمَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصَارَى حَكَوْا هَذَا الْكَلَامَ عَنْهُ، وَالْحَاكِي لِهَذَا الْكُفْرِ عَنْهُ لَا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ يَكُونُ مُذْنِبًا حَيْثُ كَذَبَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ وَغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى: طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَ الْكُفَّارَ الْجَنَّةَ وَأَنْ يُدْخِلَ الزُّهَّادَ وَالْعُبَّادَ النَّارَ، لِأَنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ عِيسَى هَذَا الْكَلَامَ وَمَقْصُودُهُ مِنْهُ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّه، وَتَرَكَ التَّعَرُّضَ وَالِاعْتِرَاضَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَعْنِي أَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مَا تُرِيدُ، حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْكَ، فَمَنْ أَنَا وَالْخَوْضُ فِي أَحْوَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّه لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ فَنَقُولُ: إِنَّ غُفْرَانَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا: لِأَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّه عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّه مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَلَعَلَّ هَذَا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الوجه الثالث: في الجواب أن القوم قَالُوا هَذَا الْكُفْرَ فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ تَابَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ عَلِمْتُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُعَذَّبِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَكَ أَنْ تُعَذِّبَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَأَنْتَ قَدْ حَكَمْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَفَرَ مِنْ عِبَادِكَ بِالْعُقُوبَةِ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ، وَأَنْتَ حَكَمْتَ عَلَى مَنْ تَابَ عَنِ الْكُفْرِ بِالْمَغْفِرَةِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ اللَّه تَعَالَى لِعِيسَى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ لَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى/هَذَا الْقَوْلِ فَالْجَوَابُ سَهْلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ يَعْنِي إِنْ تَوَفَّيْتَهُمْ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ وَعَذَّبْتَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ فَلَكَ ذَاكَ، وَإِنْ أَخْرَجْتَهُمْ بِتَوْفِيقِكَ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَغَفَرْتَ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ فَلَكَ أَيْضًا ذَاكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم، فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لَيْسَ فِي حَقِّ أَهْلِ الثَّوَابِ لِأَنَّ التَّعْذِيبَ لَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَلَيْسَ أَيْضًا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يَلِيقُ بِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَإِذَا ثَبَتَ شَفَاعَةُ الْفُسَّاقِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم، بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) سَمِعْتُ شَيْخِي وَوَالِدِي رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هَاهُنَا أَوْلَى مِنَ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ غَفُورًا رَحِيمًا يُشْبِهُ الْحَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِكُلِّ مُحْتَاجٍ، وَأَمَّا الْعِزَّةُ وَالْحِكْمَةُ فَهُمَا لَا يُوجِبَانِ الْمَغْفِرَةَ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ فَإِذَا كَانَ عَزِيزًا مُتَعَالِيًا عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ حَكَمَ بِالْمَغْفِرَةِ كَانَ الْكَرَمُ هَاهُنَا أَتَمَّ مِمَّا إِذَا كَانَ كَوْنُهُ غَفُورًا رَحِيمًا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ، فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يَقُولَ: عَزَّ عَنِ الْكُلِّ. ثُمَّ حَكَمَ بِالرَّحْمَةِ فَكَانَ هَذَا أَكْمَلَ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَوْ قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، أَشْعَرَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا لَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِهَذَا الْبَابِ من جميع الوجوه]
قلت: قوله: (فَلَعَلَّ هَذَا الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي شَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) باطل بيقين، وهو هراء محض عند من استحضر قوله، جل جلاله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)}، (المائدة؛ 5: 72)!!!
أما قوله: (بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ) يحتاج إلى مراجعة وتدقيق، وسنعود إليه في النقاش الختامي، إن شاء الله تعالى.

ــ وجاء في تفسير ابن جُزَيْ [التسهيل لعلوم التنزيل (1/252)]: [إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيها سؤالان الأول كيف قال وإن تغفر لهم وهم كفار والكفار لا يغفر لهم؟ والجواب أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وأنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه، لأن الخلق عباده، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله تعالى وعزته، وفرق بين الجواز والوقوع، وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء، فلا إشكال، لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذ أحياء، وكل حيّ معرض للتوبة، السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم، لقوله: وإن تغفر لهم والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل: فإنك أنت الغفور الرحيم؟ والجواب من ثلاثة أوجه. الأول يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله والتعظيم له، كان قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم أليق، فإن الحكمة تقتضي التسليم له، والعزة تقتضي التعظيم له، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدم المغفرة لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. الجواب الثاني: قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: إنما لم يقل الغفور الرحيم لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم. فاقتصر على التسليم والتفويض دون الطلب. إذ لا تطلب المغفرة للكفار، وهذا قريب من قولنا. الثالث حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافا وجواب إن في قوله فإنهم عبادك كأنه قال إن تعذبهم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال]

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 07-21-2012, 03:54 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

ــ وجاء أخيراً في لطائف الإشارات [تفسير القشيري، لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفى: 465هـ)، (1/458)]: [بيّن أن حكم المولى في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، فقال إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي المعز لهم بمغفرتك لهم. ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضرك كفرهم. ويقال «الْعَزِيزُ» القادر على الانتقام منهم فالعفو عند القدرة سمة الكرم، وعند العجز أمارة الذّلّ. ويقال: إن تغفر لهم فإنك أعزّ من أن تتجمل بطاعة مطيع أو تنتقص بزلّة عاص. وقوله «الْحَكِيمُ» ردّ على من قال: غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة]
قلت: كلام القشيري، رحمه الله، في غاية الجودة، أعني بخاصة قوله: [«الْعَزِيزُ» القادر على الانتقام منهم فالعفو عند القدرة سمة الكرم، وعند العجز أمارة الذّلّ. ويقال: إن تغفر لهم فإنك أعزّ من أن تتجمل بطاعة مطيع أو تنتقص بزلّة عاص. وقوله «الْحَكِيمُ» ردّ على من قال: غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة]. وهو وإن لم يكن من أئمة التفسير المشاهير، إلا أنه قبل النص الإلاهي كما هو، ولم يسمح لخياله أن يشطح بالتأويلات الفاسدة، ففتح الله عليه بهذا الفهم الجميل. وهذا الفهم موافق للدليل العقلي، كما قاله الأشاعرة، وصاغه معتزلة البصرة: (لِأَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّه عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّه مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا)
أما قوله: [إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك]، فهو بحاجة إلى بلورة وتحقيق. فإن كان المقصود (العذاب) الذي يقع وفق المشيئة الكونية في هذا الكون الابتلائي كالذي يصيب عامة الناس، والحيوان أيضا، من ألم الأمراض، والحرائق، والغرق، والأعاصير المدمرة، والخسوفات والزلازل الماحقة، وما شاكل ذلك؛ فذلك من الممكنات العقلية، فيمكن أن تتعلق به القدرة الإلاهية، إلا أنه يتناقض مع القداسة الإلاهية، والكمالات الصمدانية، لمنافاته للرحمة والكرم الإلاهي، إلا إذا كان لحكمة بالغة، وليس فقط لمجرد (نفاذ حكم المولى في عبيده بحكم إطلاق ملكه)، كما يزعم الأشاعرة، وعامة الجبرية، وأكثر المتصوفة. والجبرية، أخزاهم الله وأبعدهم، ما زادوا على أن جعلوا ربهم جباراً طاغية: فالله والشيطان عندهم (وجهان لعملة واحدة)؛ تعالى ربنا وتقدس، جل جلاله، وسما مقامه، حقَّاً وصدقاً، أزلاً وأبداً!
وبالرغم من وقوع ذلك لحكمة بالغة، أبت عزة الله، جل جلاله، وسما مقامه، وحكمته، وكرمه ورحمته، إلا أن يجزل العوض في ذلك، فجعل الله ذلك كفارات للذنوب، ورفعاً للدرجات، بمنح مراتب الشهداء للمبطون والغريق والحريق والمطعون، والإنسان يموت تحت الهدم، والمرأة تموت في النفاس، وجعل الأفراط شفعاء، وقبل تعنت السقط على ربه، حتى يسحب والديه بحبله السري إلى الجنة، وما شابه ذلك، وما الله به عليم. هذا ثابت، بدون أدنى شبهة، لأهل الإيمان، ولا شك أن لأهل الكفر معاوضات مناسبة، علمنا بها أو لم نعلم، وكذلك للبهائم، والله أوسع وأرحم، وأعز وأكرم.
أما العذاب على وجه العقوبة: فالعقوبة لا تكون إلا على مستحقها، وإلا فهو الظلم والعدوان، والإسراف والطغيان، حاشا لله، ثم حاشا لله: تعالى، وتقدس، وتكبر عن التردي في دركات الطغيان والسفالة، لذلك حرم الظلم على نفسه المقدسة أزلاً وأبداً. فتحريمه الظلم على نفسه، بموجب القداسة الإلاهية، والكمالات الصمدانية، جعل وقوعه منه، جل وعز، كأنه من المحالات العقلية، وكأن القدرة لا تتعلق به. ونار جهنم هي دار عقوبة محضة، فمن المحال الممتنع أن يدخلها أو أن يعذب بها إلا من استحق العقوبة بها.
فالواجب إذاً أن يقال: [إن تعذبهم، لحكمة بالغة، أو عقوبة مستحقة، يحسن منك ذلك لأنهم عبادك، وأنت القدوس السلام، العزيز الحكيم]؛ لأن حكم المولى القدوس السلام في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، لا يقيده إلا قداسته الإلاهية، وكمالاته الصمدانية؛

وقد آن لنا الآن أن نعود إلى الجملة الخطيرة: (لَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ خَبَرَهُ)، وقول الرازي: (بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ)، فلعلنا نحرر بعض الأمور المهمة قبل ذلك:

أولاً: لا شك أن الكذب، وهو الإخبار بخلاف الواقع، محال على الله، جل جلاله، وسما مقامه، بموجب القداسة الإلاهية، والكمالات الصمدانية، فلا يقع أبداً كأنه من المحالات العقلية، وكأن القدرة لا تتعلق به. ومن جنس الكذب: الخداع والمكر والاستدراج على وجه الابتداء؛ أما على وجه العقوبة فليس بقبيح، ويحسن في أحوال تقتضيها الحكمة. هذا ثابت بضرورة الحس والعقل، قبل مجيء الشرع، وإلا لسقطت الثقة بالحس والعقل، ولما كان ثمة فرق بين عقل وجنون، وإيمان وكفر، بل ووجود وعدم.

ثانياً: أن (الخبر) عما هو موجود أو واقع الآن، أو كان موجوداً وواقعاً مضى وذهب، هو (الخبر) حقيقة. وهو الذي يحتمل الصدق والكذب. فإن جاء عن الله خبر من هذا النوع، فهو خبر صادق ضرورة، وهو الحق الذي لا مرية فيه.

ثالثاً: (الخبر) عن المستقبل، أي عما لم يقع بعد، ولم يخرج من العدم إلى الوجود، ليس كله (خبر) على الحقيقة، وإن كان صيغ بشيء من صيغ الإخبار في اللغة. فقول الرجل لصاحبه: (ليس عندي الآن ما أقرضك، ولكن إئتني أول الشهر بعد استلامي أجرة عقاري) يتكون من جملتين: الجملة الأولى: (ليس عندي الآن ما أقرضك)، خبر حقيقة، لا يحتمل إلا الصدق أو الكذب، لا غير؛ أما الجملة الثانية فتتكون من أمرين: (توقع) استلام أجرة العقار، وهذا خارج عن سلطان المتكلم: فقد يعجز المستأجر عن الدفع، وقد يأخذ جبار من الجبابرة العقار غصباً، وقد يخسف بالعقار فلا يعود له وجود؛ وبطبيعة الحال لا يستطيع المتكلم أن يقرض صاحبه، ولا يمكن أن يوصف كلامه بأنه كذب، وإنما يقال: (خاب توقعه)، ولا يعتبر حينئذ مخلفاً لوعده لأنه علق الإقراض عل شرط استلام الأجرة؛ وفي العادة لا يكون شيء من ذلك ويستلم الرجل أجرته. فإن أقرض صاحبه، قيل: (وفى بوعده) أو (صدق وعده)؛ وإن لم يقرض قيل: (خاس بوعده)، ولا شك أن (عدم الوفاء بالوعد) أو (إخلاف الوعد) خسة ونذالة، وهو أخو الكذب، وفيه شبه من الكذب، ولكنه ليس عين الكذب الاصطلاحي، بل هو شيء آخر. وصدور هذا النوع من (الخبر) عن المستقبل من غير الله يختلف جذرياً عن صدوره عن الله، كما سنبينه بعد قليل.

رابعاً: أن كل ما هو كائن، باستثناء الله تبارك وتعالى، وكل ما سيكون من أعيان وصفات وأفعال وحوادث، كل ذلك واقع في ملك الله، وهو من مخلوقات الله في أصله ومنشئه، مهما تعددت الوسائط البينية، وتسلسلت الأسباب، وتطاولت الأزمنة، وما كان ليكون، أي أن يخرج من العدم إلى الوجود، إلا بتقدير الله وإذنه. والله، جل جلاله، وسما مقامه، قد أحاط بكل شيء علماً: أحاط علماً بما كان، وبما يمكن أن يكون، وبما لم يكن، لو كان: كيف يكون؛ وما من خالق إلا الله، وما في الوجود واجب للوجود بذاته إلا الله، فكل ما سوى الله خلقه وملكه، بيده مقاليد السموات والأرض، يقبض عليها "بيد من حديد": فمحال أن يكون في ملك الله شيء إلا بتقديره وإذنه الكوني: لا يعجزه شيء، ولا يغالبه غالب، ولا يفلت منه هارب.
خامساً: لا شك أن (إخلاف الوعد)، من القادر على الإنفاذ، خسة ونذالة، وهو أخو الكذب، وهو محال على الله، جل جلاله، وسما مقامه، بموجب القداسة الإلاهية، والكمالات الصمدانية، فلا يقع أبداً كأنه من المحالات العقلية، وكأن القدرة لا تتعلق به. ولما كان الله على كل شيء قدير، وقد أحاط بكل شيء علماً: فمن المحال الممتنع أيضاً أن لا يقع ما جعله الله شرطاً لوعد من وعوده. ونقصد بالوعد هنا فقط (الوعد الحسن)، أي ما كان (الموعود به) منفعة (أو مصلحة أو لذة أو تكريم) لـ(الموعود له)؛ بخلاف (الوعيد) أو (التهديد)، وهو ما كان (الموعود به) مضرة (أو مفسدة أو ألم أو إهانة) (للموعود له). وأمثلة هذا كثيرة في القرآن، كما يشهد بذلك قوله، جل وعز: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، (التوبة؛ 9: 111)؛ وقوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً}، (الفرقان؛ 25: 16)؛ وقوله: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}، (القصص؛ 29: 61)؛ وقوله: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}، (النساء؛ 4: 95): وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}، (النساء؛ 4: 122)؛ وقوله: {وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}، (المائدة؛ 5: 9)؛ وقوله: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، (التوبة؛ 9: 72)؛ وغيرها كثير، وكلها حق يقيني، ووعود صدق لا بد من تحققها؛ ومن الحديث، ما رُوِيَ حكاية عن الرب، تباركت أسماؤه، وتقدست صفاته، من مثل: {وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني}؛ وقوله لدعوة المظلوم: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}؛ وقوله: {وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله}؛ وقوله: {وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم يفعل}؛ فإن ثبت هذا عن الله فهي كذلك وعود حق وصدق، لا بد من تحققها، ويستحيل أن يخلف الرب، جل وعلا، وعده بها.

سادساً: وعيد وتهديد من الله، تباركت أسماؤه، بغض عن اللفظ الذي جاء به:
(1) - لفظ (الوعد) كقوله، جل جلاله، وسما مقامه: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}، (التوبة؛ 9: 68)، وقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً، فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، (الأعراف؛ 7: 44)، فلفظ الوعد الأول في الآية (وعد)، أما الثاني فهو (وعيد)؛
(2) - أو صيغة الخبر، وهو الأكثر، كقوله، جل جلاله، وسما مقامه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}، (فاطر؛ 35: 36)؛ وقوله: {إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، (الجن؛ 72: 23)؛ {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}، (التوبة؛ 9: 35)؛ {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}، (التوبة؛ 9: 63)؛ {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً}، (الطور؛ 52: 13)؛ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}، (البينة؛ 98: 6)؛ وفي الحديث الصحيح: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ثم ينادي يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت)، قوله: (خلود فلا موت) لأهل الجنة: وعد، ولأهل النار: وعيد.
وإنفاذ الوعيد ليس لازماً أو واجباً في الأصل، لأن الحق الذي لا ينبغي أن تكون فيه شبهة: (أَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّه عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّه مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا). هذا هو الأصل ولكن قد توجد أحوال قليلة مخصوصة يلزم فيها إنفاذ الوعيد، مثال ذلك: قوله، جل جلاله، وسما مقامه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}، (هود؛ 11: 63 - 65)، لأن عدم إنفاذه يسقط الحجة القاطعة بنبوة النبي، فتسقط حجة الله على عباده، وهذا لا يجوز؛ غير أن هذا إنما يتصور في الدنيا، دار الابتلاء، ولا يتصور في الآخرة، دار الجزاء.
فإذا تأملت هذا حق تأمله ظهر لك وجاهة قول الإمام ابن القيم بـ(فناء النار) كما تجده مفصلاً في كتابه الممتع (حادي الأرواح إلى بلد الأفراح)، ولكن ليس هذا موضوعنا في هذا المقام!

سابعاً: التزامات ألزم الرب، جل جلاله، وسما مقامه، نفسه بها، وليست من جنس (الوعد)، ولا هي من باب (الوعيد)، وهي أنواع كثيرة متباينة، يصعب حصرها، وإنما تتضح بضرب الأمثال لها:
ــ كقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، (يونس؛ 10: 4)؛ وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، (النحل؛ 16: 38)؛ وقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، (الأنبياء؛ 21: 104)؛ وقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً}، (مريم؛ 19: 71)؛ هذا كله شرط لإنفاذ بعض ما وعد، فلا بد من وقوعه لا محالة، كالوعد تماماُ؛
ــ وقوله: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، (الأنعام؛ 6: 54)؛ وأعم منه، قوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، (الأنعام؛ 6: 12)؛ وفي الحديث الصحيح: (إن الله حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه: {إن رحمتي تغلب غضبي})، هذا هو اللفظ الذي أخرجه الإمام الترمذي في سننه (ج5/ص549/ح3543): [حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قاله]؛ وأخرجه الإمام البخاري في صحيحه (ج6/ص2694/ح6969) بلفظ: [حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال لما خلق الله الخلق كتب في كتابه، وهو يكتب على نفسه، وهو وضعه عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي]؛ وأخرجه مسلم في صحيحه (ج4/ص2108/ح2751)؛ وأخرجه جمهور الأئمة؛ وربما قال بعضهم: (إن رحمتي سبقت غضبي)، وهو نقل تواتر عن أبي هريرة: رواه أبو صالح ذكوان، والأعرج، وأبو رافع، وهمام بن منبه، وعجلان، وعطاء بن ميناء؛ وهذا كله في حقيقته وعد بالتفضل والإحسان، فلا بد من وقوعه لا محالة، كالوعد تماماُ؛

وبهذا حسمت القضية، وبان الحق لكل ذي عينين، وثبت يقيناً أن (الْعِقَابَ حَقُّ اللَّه عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّه مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا)؛ كما ثبت يقينا أن (إن تعذيب الخلق، لحكمة بالغة، أو عقوبة مستحقة، يحسن من الله لأنهم عباده، وهو القدوس السلام، العزيز الحكيم لأن حكم المولى القدوس السلام في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، لا يقيده إلا قداسته الإلاهية، وكمالاته الصمدانية)؛ وبطل يقينا زعم من قال أن (غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة)؛ كما بطل يقينا قول من زعم أن (الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا دَلَّ عَلَى أَنَّ غفران الشّرك لَا يَقَعُ).

والله أعلم وأحكم؛ وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فهرس مؤلفات الشيخ ضياء الدين القدسي حفظه الله ..(متجدد) أنصار التوحيد الكتب 0 04-02-2011 02:48 AM


الساعة الآن 06:03 AM


جميع المشاركات تعبّر عن وجهة نظر صاحبها ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر إدارة المنتدى