عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 07-21-2012, 03:54 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

ــ وجاء أخيراً في لطائف الإشارات [تفسير القشيري، لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفى: 465هـ)، (1/458)]: [بيّن أن حكم المولى في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، فقال إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي المعز لهم بمغفرتك لهم. ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضرك كفرهم. ويقال «الْعَزِيزُ» القادر على الانتقام منهم فالعفو عند القدرة سمة الكرم، وعند العجز أمارة الذّلّ. ويقال: إن تغفر لهم فإنك أعزّ من أن تتجمل بطاعة مطيع أو تنتقص بزلّة عاص. وقوله «الْحَكِيمُ» ردّ على من قال: غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة]
قلت: كلام القشيري، رحمه الله، في غاية الجودة، أعني بخاصة قوله: [«الْعَزِيزُ» القادر على الانتقام منهم فالعفو عند القدرة سمة الكرم، وعند العجز أمارة الذّلّ. ويقال: إن تغفر لهم فإنك أعزّ من أن تتجمل بطاعة مطيع أو تنتقص بزلّة عاص. وقوله «الْحَكِيمُ» ردّ على من قال: غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة]. وهو وإن لم يكن من أئمة التفسير المشاهير، إلا أنه قبل النص الإلاهي كما هو، ولم يسمح لخياله أن يشطح بالتأويلات الفاسدة، ففتح الله عليه بهذا الفهم الجميل. وهذا الفهم موافق للدليل العقلي، كما قاله الأشاعرة، وصاغه معتزلة البصرة: (لِأَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّه عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّه مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا)
أما قوله: [إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك]، فهو بحاجة إلى بلورة وتحقيق. فإن كان المقصود (العذاب) الذي يقع وفق المشيئة الكونية في هذا الكون الابتلائي كالذي يصيب عامة الناس، والحيوان أيضا، من ألم الأمراض، والحرائق، والغرق، والأعاصير المدمرة، والخسوفات والزلازل الماحقة، وما شاكل ذلك؛ فذلك من الممكنات العقلية، فيمكن أن تتعلق به القدرة الإلاهية، إلا أنه يتناقض مع القداسة الإلاهية، والكمالات الصمدانية، لمنافاته للرحمة والكرم الإلاهي، إلا إذا كان لحكمة بالغة، وليس فقط لمجرد (نفاذ حكم المولى في عبيده بحكم إطلاق ملكه)، كما يزعم الأشاعرة، وعامة الجبرية، وأكثر المتصوفة. والجبرية، أخزاهم الله وأبعدهم، ما زادوا على أن جعلوا ربهم جباراً طاغية: فالله والشيطان عندهم (وجهان لعملة واحدة)؛ تعالى ربنا وتقدس، جل جلاله، وسما مقامه، حقَّاً وصدقاً، أزلاً وأبداً!
وبالرغم من وقوع ذلك لحكمة بالغة، أبت عزة الله، جل جلاله، وسما مقامه، وحكمته، وكرمه ورحمته، إلا أن يجزل العوض في ذلك، فجعل الله ذلك كفارات للذنوب، ورفعاً للدرجات، بمنح مراتب الشهداء للمبطون والغريق والحريق والمطعون، والإنسان يموت تحت الهدم، والمرأة تموت في النفاس، وجعل الأفراط شفعاء، وقبل تعنت السقط على ربه، حتى يسحب والديه بحبله السري إلى الجنة، وما شابه ذلك، وما الله به عليم. هذا ثابت، بدون أدنى شبهة، لأهل الإيمان، ولا شك أن لأهل الكفر معاوضات مناسبة، علمنا بها أو لم نعلم، وكذلك للبهائم، والله أوسع وأرحم، وأعز وأكرم.
أما العذاب على وجه العقوبة: فالعقوبة لا تكون إلا على مستحقها، وإلا فهو الظلم والعدوان، والإسراف والطغيان، حاشا لله، ثم حاشا لله: تعالى، وتقدس، وتكبر عن التردي في دركات الطغيان والسفالة، لذلك حرم الظلم على نفسه المقدسة أزلاً وأبداً. فتحريمه الظلم على نفسه، بموجب القداسة الإلاهية، والكمالات الصمدانية، جعل وقوعه منه، جل وعز، كأنه من المحالات العقلية، وكأن القدرة لا تتعلق به. ونار جهنم هي دار عقوبة محضة، فمن المحال الممتنع أن يدخلها أو أن يعذب بها إلا من استحق العقوبة بها.
فالواجب إذاً أن يقال: [إن تعذبهم، لحكمة بالغة، أو عقوبة مستحقة، يحسن منك ذلك لأنهم عبادك، وأنت القدوس السلام، العزيز الحكيم]؛ لأن حكم المولى القدوس السلام في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، لا يقيده إلا قداسته الإلاهية، وكمالاته الصمدانية؛

وقد آن لنا الآن أن نعود إلى الجملة الخطيرة: (لَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ خَبَرَهُ)، وقول الرازي: (بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ)، فلعلنا نحرر بعض الأمور المهمة قبل ذلك:

أولاً: لا شك أن الكذب، وهو الإخبار بخلاف الواقع، محال على الله، جل جلاله، وسما مقامه، بموجب القداسة الإلاهية، والكمالات الصمدانية، فلا يقع أبداً كأنه من المحالات العقلية، وكأن القدرة لا تتعلق به. ومن جنس الكذب: الخداع والمكر والاستدراج على وجه الابتداء؛ أما على وجه العقوبة فليس بقبيح، ويحسن في أحوال تقتضيها الحكمة. هذا ثابت بضرورة الحس والعقل، قبل مجيء الشرع، وإلا لسقطت الثقة بالحس والعقل، ولما كان ثمة فرق بين عقل وجنون، وإيمان وكفر، بل ووجود وعدم.

ثانياً: أن (الخبر) عما هو موجود أو واقع الآن، أو كان موجوداً وواقعاً مضى وذهب، هو (الخبر) حقيقة. وهو الذي يحتمل الصدق والكذب. فإن جاء عن الله خبر من هذا النوع، فهو خبر صادق ضرورة، وهو الحق الذي لا مرية فيه.

ثالثاً: (الخبر) عن المستقبل، أي عما لم يقع بعد، ولم يخرج من العدم إلى الوجود، ليس كله (خبر) على الحقيقة، وإن كان صيغ بشيء من صيغ الإخبار في اللغة. فقول الرجل لصاحبه: (ليس عندي الآن ما أقرضك، ولكن إئتني أول الشهر بعد استلامي أجرة عقاري) يتكون من جملتين: الجملة الأولى: (ليس عندي الآن ما أقرضك)، خبر حقيقة، لا يحتمل إلا الصدق أو الكذب، لا غير؛ أما الجملة الثانية فتتكون من أمرين: (توقع) استلام أجرة العقار، وهذا خارج عن سلطان المتكلم: فقد يعجز المستأجر عن الدفع، وقد يأخذ جبار من الجبابرة العقار غصباً، وقد يخسف بالعقار فلا يعود له وجود؛ وبطبيعة الحال لا يستطيع المتكلم أن يقرض صاحبه، ولا يمكن أن يوصف كلامه بأنه كذب، وإنما يقال: (خاب توقعه)، ولا يعتبر حينئذ مخلفاً لوعده لأنه علق الإقراض عل شرط استلام الأجرة؛ وفي العادة لا يكون شيء من ذلك ويستلم الرجل أجرته. فإن أقرض صاحبه، قيل: (وفى بوعده) أو (صدق وعده)؛ وإن لم يقرض قيل: (خاس بوعده)، ولا شك أن (عدم الوفاء بالوعد) أو (إخلاف الوعد) خسة ونذالة، وهو أخو الكذب، وفيه شبه من الكذب، ولكنه ليس عين الكذب الاصطلاحي، بل هو شيء آخر. وصدور هذا النوع من (الخبر) عن المستقبل من غير الله يختلف جذرياً عن صدوره عن الله، كما سنبينه بعد قليل.

رابعاً: أن كل ما هو كائن، باستثناء الله تبارك وتعالى، وكل ما سيكون من أعيان وصفات وأفعال وحوادث، كل ذلك واقع في ملك الله، وهو من مخلوقات الله في أصله ومنشئه، مهما تعددت الوسائط البينية، وتسلسلت الأسباب، وتطاولت الأزمنة، وما كان ليكون، أي أن يخرج من العدم إلى الوجود، إلا بتقدير الله وإذنه. والله، جل جلاله، وسما مقامه، قد أحاط بكل شيء علماً: أحاط علماً بما كان، وبما يمكن أن يكون، وبما لم يكن، لو كان: كيف يكون؛ وما من خالق إلا الله، وما في الوجود واجب للوجود بذاته إلا الله، فكل ما سوى الله خلقه وملكه، بيده مقاليد السموات والأرض، يقبض عليها "بيد من حديد": فمحال أن يكون في ملك الله شيء إلا بتقديره وإذنه الكوني: لا يعجزه شيء، ولا يغالبه غالب، ولا يفلت منه هارب.
خامساً: لا شك أن (إخلاف الوعد)، من القادر على الإنفاذ، خسة ونذالة، وهو أخو الكذب، وهو محال على الله، جل جلاله، وسما مقامه، بموجب القداسة الإلاهية، والكمالات الصمدانية، فلا يقع أبداً كأنه من المحالات العقلية، وكأن القدرة لا تتعلق به. ولما كان الله على كل شيء قدير، وقد أحاط بكل شيء علماً: فمن المحال الممتنع أيضاً أن لا يقع ما جعله الله شرطاً لوعد من وعوده. ونقصد بالوعد هنا فقط (الوعد الحسن)، أي ما كان (الموعود به) منفعة (أو مصلحة أو لذة أو تكريم) لـ(الموعود له)؛ بخلاف (الوعيد) أو (التهديد)، وهو ما كان (الموعود به) مضرة (أو مفسدة أو ألم أو إهانة) (للموعود له). وأمثلة هذا كثيرة في القرآن، كما يشهد بذلك قوله، جل وعز: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، (التوبة؛ 9: 111)؛ وقوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً}، (الفرقان؛ 25: 16)؛ وقوله: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}، (القصص؛ 29: 61)؛ وقوله: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}، (النساء؛ 4: 95): وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}، (النساء؛ 4: 122)؛ وقوله: {وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}، (المائدة؛ 5: 9)؛ وقوله: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، (التوبة؛ 9: 72)؛ وغيرها كثير، وكلها حق يقيني، ووعود صدق لا بد من تحققها؛ ومن الحديث، ما رُوِيَ حكاية عن الرب، تباركت أسماؤه، وتقدست صفاته، من مثل: {وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني}؛ وقوله لدعوة المظلوم: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}؛ وقوله: {وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله}؛ وقوله: {وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم يفعل}؛ فإن ثبت هذا عن الله فهي كذلك وعود حق وصدق، لا بد من تحققها، ويستحيل أن يخلف الرب، جل وعلا، وعده بها.

سادساً: وعيد وتهديد من الله، تباركت أسماؤه، بغض عن اللفظ الذي جاء به:
(1) - لفظ (الوعد) كقوله، جل جلاله، وسما مقامه: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}، (التوبة؛ 9: 68)، وقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً، فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، (الأعراف؛ 7: 44)، فلفظ الوعد الأول في الآية (وعد)، أما الثاني فهو (وعيد)؛
(2) - أو صيغة الخبر، وهو الأكثر، كقوله، جل جلاله، وسما مقامه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}، (فاطر؛ 35: 36)؛ وقوله: {إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، (الجن؛ 72: 23)؛ {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}، (التوبة؛ 9: 35)؛ {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}، (التوبة؛ 9: 63)؛ {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً}، (الطور؛ 52: 13)؛ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}، (البينة؛ 98: 6)؛ وفي الحديث الصحيح: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ثم ينادي يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت)، قوله: (خلود فلا موت) لأهل الجنة: وعد، ولأهل النار: وعيد.
وإنفاذ الوعيد ليس لازماً أو واجباً في الأصل، لأن الحق الذي لا ينبغي أن تكون فيه شبهة: (أَنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّه عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّه مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا). هذا هو الأصل ولكن قد توجد أحوال قليلة مخصوصة يلزم فيها إنفاذ الوعيد، مثال ذلك: قوله، جل جلاله، وسما مقامه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}، (هود؛ 11: 63 - 65)، لأن عدم إنفاذه يسقط الحجة القاطعة بنبوة النبي، فتسقط حجة الله على عباده، وهذا لا يجوز؛ غير أن هذا إنما يتصور في الدنيا، دار الابتلاء، ولا يتصور في الآخرة، دار الجزاء.
فإذا تأملت هذا حق تأمله ظهر لك وجاهة قول الإمام ابن القيم بـ(فناء النار) كما تجده مفصلاً في كتابه الممتع (حادي الأرواح إلى بلد الأفراح)، ولكن ليس هذا موضوعنا في هذا المقام!

سابعاً: التزامات ألزم الرب، جل جلاله، وسما مقامه، نفسه بها، وليست من جنس (الوعد)، ولا هي من باب (الوعيد)، وهي أنواع كثيرة متباينة، يصعب حصرها، وإنما تتضح بضرب الأمثال لها:
ــ كقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، (يونس؛ 10: 4)؛ وقوله: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، (النحل؛ 16: 38)؛ وقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، (الأنبياء؛ 21: 104)؛ وقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً}، (مريم؛ 19: 71)؛ هذا كله شرط لإنفاذ بعض ما وعد، فلا بد من وقوعه لا محالة، كالوعد تماماُ؛
ــ وقوله: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، (الأنعام؛ 6: 54)؛ وأعم منه، قوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، (الأنعام؛ 6: 12)؛ وفي الحديث الصحيح: (إن الله حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه: {إن رحمتي تغلب غضبي})، هذا هو اللفظ الذي أخرجه الإمام الترمذي في سننه (ج5/ص549/ح3543): [حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قاله]؛ وأخرجه الإمام البخاري في صحيحه (ج6/ص2694/ح6969) بلفظ: [حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال لما خلق الله الخلق كتب في كتابه، وهو يكتب على نفسه، وهو وضعه عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي]؛ وأخرجه مسلم في صحيحه (ج4/ص2108/ح2751)؛ وأخرجه جمهور الأئمة؛ وربما قال بعضهم: (إن رحمتي سبقت غضبي)، وهو نقل تواتر عن أبي هريرة: رواه أبو صالح ذكوان، والأعرج، وأبو رافع، وهمام بن منبه، وعجلان، وعطاء بن ميناء؛ وهذا كله في حقيقته وعد بالتفضل والإحسان، فلا بد من وقوعه لا محالة، كالوعد تماماُ؛

وبهذا حسمت القضية، وبان الحق لكل ذي عينين، وثبت يقيناً أن (الْعِقَابَ حَقُّ اللَّه عَلَى الْمُذْنِبِ وَفِي إِسْقَاطِهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلَيْسَ فِي إِسْقَاطِهِ عَلَى اللَّه مَضَرَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا)؛ كما ثبت يقينا أن (إن تعذيب الخلق، لحكمة بالغة، أو عقوبة مستحقة، يحسن من الله لأنهم عباده، وهو القدوس السلام، العزيز الحكيم لأن حكم المولى القدوس السلام في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، لا يقيده إلا قداسته الإلاهية، وكمالاته الصمدانية)؛ وبطل يقينا زعم من قال أن (غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة)؛ كما بطل يقينا قول من زعم أن (الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ فِي شَرْعِنَا دَلَّ عَلَى أَنَّ غفران الشّرك لَا يَقَعُ).

والله أعلم وأحكم؛ وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

رد مع اقتباس