عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 07-21-2012, 03:49 AM
طارق الطارق طارق الطارق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2012
المشاركات: 12
افتراضي

هذا كله فيما يتعلق بالمثال الأول للأستاذ ضياء القدسي فيما يتعلق بالإسناد ولفظ الخبر، ولم نجد اللفظ الذي ذكره منسوباً إلى البيهقي، ولا الإسناد الذي حسنه (هو، أو البيهقي، أو صاحب الكتاب الذي اقتبس كلام البيهقي)؛ فهذا دليل أول على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

وحتى لو سلمنا باللفظ، كما ذكره، وبصحة الخبر، كما زعمه، فهو حجة عليه لا له؛ لأن الخبر، والأخبار الأخرى المشابهة، هي قصص جدال ولجاجة قوم معاندين، وليس هو مناظرة بأصولها المعلومة. ولعلك تتأمل كلام ابن كثير: (وَهَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مَجْلِسُ ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ وعناد، وَلِهَذَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالرَّحْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَلَّا يُجَابُوا إِلَى مَا سَأَلُوا، لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ).
فالأستاذ ضياء القدسي لا يميز بين اللجاج والمجادلة من جانب والمناظرة من جانب آخر. فهذا دليل ثاني على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

ومن حقنا نطبق المثال الأول كما ذكره بحذافيره، على حالنا فنقول: نحن لم نأت إليك، بل أنت الذي إلينا جئت مجادلاً فحالك كحال حصين الخزاعي، فمن حقنا أن نلوذ بالصمت، كما فعل سيدي أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العدناني، رسول الله، وخاتم النبيين، حتى تفرغ من كلامك وجدالك ولجاجك، ثم نقول: إقرأ كتابنا (كتاب التوحيد) قراءة هضم واستيعاب ونقد؛ فإن فعلت: أفدناك، بإذن الله، فوائد أخرى تنفع في الدنيا والآخرة. فهذا دليل ثالث على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

أما المثال الثاني: فقد اقتبسه من مصدر ثانوي، كعادته، من غير ذكر المصدر، وهو مع ذلك ناقص. ولو أنه رجع إلى المكتبة الإلكترونية الشاملة لما احتاج إلا إلى بضع دقائق للقص واللزق، وسويعات لمراجعة أقوال الأئمة في إسناد القصة وثبوتها. فهذا دليل رابع على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

وإليك القصة بأحرفها كما ورت في تاريخ بغداد [ت بشار (5/233/2095)] خلال ترجمة (أَحْمَد بْن أَبِي دَؤاد بْن حريز، أَبُو عَبْد اللَّه الْقَاضِي الإيادي): [أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الفرج بْن عَلِيّ البزاز، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم بْن ماسي، قَالَ: حَدَّثَنَا جعفر بْن شُعَيْب الشاشي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يوسف الشاشي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن مَنَّه، قَالَ: سَمِعْتُ طَاهِر بْن خلف، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن الواثق الَّذِي يقال لَهُ المهتدى بالله، يَقُولُ: كَانَ أَبِي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس، فأتى بشيخ مخضوب مقيد، فَقَالَ أَبِي: ائذنوا لأبي عَبْد اللَّه وأصحابه يَعْنِي: ابْن أَبِي دؤاد، قَالَ: فأدخل الشيخ فِي مصلاه، قَالَ: السلام عليك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ لا سلم اللَّه عليك، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بئس ما أدبك مؤدبك، قَالَ اللَّه تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها، فَقَالَ ابن أَبِي دؤاد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرجل متكلم.
فَقَالَ لَهُ كلمه، فَقَالَ: يا شيخ، ما تقول فِي القرآن، قَالَ الشيخ: لم تنصفني، يَعْنِي: (ولي السؤال)، فَقَالَ لَهُ: سل، فَقَالَ لَهُ الشيخ: ما نقول فِي القرآن؟ فَقَالَ: مخلوق، فَقَالَ: هَذَا شيء علمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه، فَقَالَ: شيء لم يعلموه، فَقَالَ سبحان اللَّه: شيء لم يعلمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، ولا أَبُو بَكْر، ولا عُمَر، ولا عُثْمَان، ولا عَلِيّ، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ قَالَ: فخجل، فَقَالَ: أقلني والمسألة بحالها، قَالَ: نعم، قَالَ: ما تقول فِي القرآن، فَقَالَ: مخلوق، فَقَالَ: هَذَا شيء علمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، أم لم يعلموه؟ فَقَالَ: علموه، ولم يدعوا الناس إليه، قَالَ: أفلا وسعك ما وسعهم، قَالَ: ثم قام أَبِي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يَقُولُ: هَذَا شيء لم يعلمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، ولا أَبُو بَكْر، ولا عُمَر، ولا عُثْمَان، ولا عَلِيّ، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ سبحان اللَّه! شيء علمه النَّبِيّ، صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، ولم يدعوا الناس إليه؟ أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم دعا عمارا الحاجب، فأمر أن يرفع عَنْهُ القيود ويعطيه أربع مائة دينار ويأذن لَهُ فِي الرجوع، وسقط من عينه ابْن أَبِي دؤاد. ولم يمتحن بعد ذلك أحدا]
قلت: هذه قصة لا تثبت، فيها رواة مجاهيل لا يعرفون كما قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء [ط الرسالة (11/313 - 316)]: [هَذِهِ قِصَّةٌ مَلِيْحَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيْقِهَا مَنْ يُجهَلُ، وَلَهَا شَاهدٌ]؛ ثم ساق الشاهد، وهو وإن لم يكن في موضوعنا إلا أنه مفيد جداً لمن أصيب بهوس (التكفير) لمن قال بـ(خلق القرآن):
ــ فقد جاء في سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/313): [وبإِسْنَادِنَا إِلَى الخَطِيْبِ: أَخْبَرْنَا ابْنُ رَزْقُوَيْه، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ سِنْدِي الحَدَّادُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ المُمْتَنِعِ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بنُ عَلِيٍّ الهَاشِمِيُّ، قَالَ: حَضَرتُ المُهْتَدِي بِاللهِ، وَجَلَسَ لِينظُرَ فِي أُمورِ المَظْلُوْمِيْنَ، فَنَظَرتُ فِي القَصصِ تُقرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرهَا، فَيَأمرُ بِالتَّوقيعِ فِيْهَا، وَتُحَرَّرُ، وَتُدفعُ إِلَى صَاحِبهَا، فَيَسرُّنِي ذَلِكَ، فَجَعَلتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَفَطِنَ، وَنَظَرَ إِلَيَّ، فَغَضضْتُ عَنْهُ، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ مِنِّي وَمِنْهُ مِرَاراً، فَقَالَ: يَا صَالِحُ. قُلْتُ: لَبَّيكَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، وَوَثَبْتُ. فَقَالَ: فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ تُرِيْدُ أَنْ تَقُولَه؟! قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: عُدْ إِلَى مَوْضِعِكَ. فَلَمَّا قَامَ، خَلاَ بِي، وَقَالَ: يَا صَالِحُ، تَقُوْلُ لِي مَا دَارَ فِي نَفْسِكَ أَوِ أَقُوْلُ أَنَا؟ قُلْتُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، مَا تَأْمرُ؟ قَالَ: أَقُوْلُ: إِنَّه دَارَ فِي نَفْسِكَ أَنَّكَ اسْتحسنْتَ مَا رَأَيْتَ مِنَّا. فَقُلْتَ: أَيُّ خَلِيْفَةٍ خَلِيفتُنَا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَقُوْلُ: القُرْآنُ مَخْلُوْقٌ. فَوَرَدَ عَلَيَّ أَمْرٌ عَظِيْمٌ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا نَفْسُ، هَلْ تَمُوتِينَ قَبْلَ أَجَلِكِ؟ فَقُلْتُ: مَا دَارَ فِي نَفْسِي إِلاَّ مَا قُلْتَ.
فَأَطرَقَ مَلِيّاً، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! اسْمعْ، فَوَ اللهِ لَتَسْمَعنَّ الحَقَّ. فَسُرِّيَ عَنِّي، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَنْ أَوْلَى بِقَولِ الحَقِّ مِنْكَ، وَأَنْتَ خَلِيْفَةُ رَبِّ العَالِمِيْنَ. قَالَ: مَا زِلْتُ أَقُوْلُ: إِنَّ القُرْآنَ مَخْلُوْقٌ صَدْراً مِنْ أَيَّامِ الوَاثِقِ – (قُلْتُ: كَانَ صَغِيْراً أَيَّامَ الوَاثِقِ، وَالحِكَايَةُ فَمُنْكَرَةٌ).ثُمَّ قَالَ: حَتَّى أَقدَمَ أَحْمَدُ بنُ أَبِي دُوَادَ عَلَيْنَا شَيْخاً مِنْ أَذَنَةَ، فَأُدخلَ عَلَى الوَاثِقِ مُقيَّداً، فَرَأَيْتُهُ اسْتَحيَا مِنْهُ، وَرَقَّ لَهُ، وَقَرَّبَه، فَسَلَّمَ، وَدَعَا، فَقَالَ: يَا شَيْخُ، نَاظِرِ ابْنَ أَبِي دُوَادَ. فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، نَصَّبُوا ابْنَ أَبِي دُوَادَ، وَيَضعُفُ عَنِ المُنَاظَرَةِ. فَغَضِبَ الوَاثِقُ، وَقَالَ: أَيَضعُفُ عَنْ مُنَاظرتِكَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَائْذَنْ لِي فِي مُنَاظرتِهِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِ. قَالَ: أَفْعَلُ. فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَحْمَدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ مَقَالتِكَ هَذِهِ، هِيَ مَقَالَةٌ وَاجبَةٌ دَاخلَةٌ فِي عَقْدِ الدِّينِ، فَلاَ يَكُوْنُ الدِّينُ كَامِلاً حَتَّى تُقَالَ فِيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ رَسُوْلِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، - حِيْنَ بُعثَ، هَلْ سَتَرَ شَيْئاً مِمَّا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنْ أَمرِ دِينِهِم؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَدَعَا الأُمَّةَ إِلَى مَقَالتِكَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ، فَالتفتَ الشَّيْخُ إِلَى الوَاثِقِ، وَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ وَاحِدَةٌ. قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ الشَّيْخُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ اللهِ حِيْنَ قَالَ: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلِيْكُمْ نِعْمَتِي} (المَائدَةُ؛ 5: 3)، هَلْ كَانَ الصَّادِقُ فِي إِكمَالِ دِينِهِ، أَوْ أَنْتَ الصَّادِقُ فِي نُقصَانِهِ حَتَّى يُقَالَ بِمَقَالتِكَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ، فَقَالَ: أَجِبْ، فَلَمْ يُجِبْ. فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، اثْنَتَانِ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ مَقَالتِكَ، أَعَلِمَهَا رَسُوْلُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، أَمْ لاَ؟ قَالَ: عَلِمَهَا. قَالَ: فَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا؟ فَسَكَتَ. فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، ثَلاَثٌ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ، فَاتَّسعَ لِرَسُوْلِ اللهِ أَنْ يَعلَمَهَا وَأَمسَكَ عَنْهَا كَمَا زَعمتَ، وَلَمْ يُطَالبْ أُمَّتَهُ بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاتَّسعَ ذَلِكَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَعرضَ الشَّيْخُ، وَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، قَدْ قَدَّمْتُ أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنِ المُنَاظَرَةِ، إِنْ لَمْ يَتَّسعْ لَنَا الإِمسَاكُ عَنْهَا، فَلاَ وَسَّعَ اللهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّسعْ لَهُ مَا اتَّسَعَ لَهُم. فَقَالَ الوَاثِقُ: نَعَمْ، اقطَعُوا قَيْدَ الشَّيْخِ. فَلَمَّا قُطعَ، ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى القَيدِ ليَأْخُذَهُ، فَجَاذَبَهُ الحَدَّادُ عَلَيْهِ. فَقَالَ الوَاثِق: لِمَ أَخَذْتَهُ؟ قَالَ: لأَنِّي نَوَيتُ أَن أُوصِيَ أَنْ يُجعلَ فِي كَفَنِي حَتَّى أُخَاصِمَ بِهِ هَذَا الظَالِمَ غَداً. وَبَكَى، فَبَكَى الوَاثِقُ وَبَكَيْنَا، ثُمَّ سَألَهُ الوَاثِقُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ، فَقَالَ: لَقَدْ جَعَلتُكَ فِي حِلٍّ وَسَعَةٍ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ إِكرَاماً لِرَسُوْلِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، لِكَونِكَ مِنْ أَهْلِهِ. فَقَالَ لَهُ: أَقِمْ قِبَلَنَا فَنَنْتَفِعْ بِكَ، وَتَنْتَفِعْ بِنَا. قَالَ: إِنَّ رَدَّكَ إِيَّايَ إِلَى مَوْضِعِي أَنفعُ لَكَ، أَصِيرُ إِلَى أَهْلِي وَوَلَدِي، فَأَكُفَّ دُعَاءَهُم عَلَيْكَ، فَقَدْ خَلَّفتُهُم عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَتَقبلُ مِنَّا صِلَةً؟ قَالَ: لاَ تَحِلُّ لِي، أَنَا عَنْهَا غَنِيٌّ. قَالَ المُهْتَدِي: فَرَجَعتُ عَنْ هَذِهِ المَقَالَةِ، وَأَظنُّ أَنَّ أَبِي رَجَعَ عَنْهَا مُنْذُ ذَلِكَ الوَقْتِ. قَالَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيْرَازِيُّ الحَافِظُ: هَذَا الأَذَنِيُّ هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ الأَذْرَمِيُّ]؛ انتهى كلام الإمام الذهبي في سير الأعلام، ولعلك تلاحظ دقة الإمام في جملته المعترضة: (قُلْتُ: كَانَ صَغِيْراً أَيَّامَ الوَاثِقِ، وَالحِكَايَةُ فَمُنْكَرَةٌ)، فالحكاية منكرة، وإن كانت ممتعة لطيفة؛ وقد صاغها راويها – أو مخترعها - مراعياً بعض أصول المناظرة، ومن أهمها وجود مسألة معلومة محددة، حتى لا تنقلب المناظرة جدلاً إلى لا نهاية.
والحق أنه لم يثبت على نحو يقيني أن الواثق توقَّف عن امتحان الناس، كيف وهو ترك جثمان الإمام الشهيد المظلوم معلقاً مصلوباً عند أحد أبواب بغداد إلى وفاته؟!
فالسابق هو إذاً النص في تاريخ بغداد بعينه؛ لاحظ النص: (قَالَ الشيخ: لم تنصفني، يَعْنِي: (وَلِيَ السؤال)، فَقَالَ لَهُ: سل) مما يدل على أن الطرفين يعرفان أن للمناظرة أصولاً وقواعد: من له الحق أن يبدأ، وكيف تكون الإجابة،... إلخ؛ خلافاً لنص المحرَّف، الذي أورده الأستاذ ضياء القدسي: (قال الشيخ:‏ ‏ أنا أسألك قبل. ‏فقال له: سـَلْ) الذي لا يظهر منه ذلك إطلاقاً.
قال الأستاذ ضياء القدسي: [أين ومتى سألتك هل تقول أو لا تقول بقاعدة: "الأصل في الأشياء، والأفعال، والأقوال الإباحة"؟ أنا أعلم أنك تقول بهذه القاعدة، وليس أنت ولا ابن حزم فقط يقولان بهذه القاعدة يا أستاذ كما تظن متفاخراً. فهذه قاعدة قال بها قبل ابن حزم أكثر علماء الحنفية وأكثر علماء الحنابلة وبعض الشافعية وأبو الفرج المالكي من المالكية. فكيف تقول أنه لم يسبقك إليها إلا ابن حزم؟ أما عن قولك بأنك أصلت لهذه القاعدة على نحو لم يسبقك أحد إليه فسيأتي إن شاء الله الرد على هذا الكلام في مكانه]
وذلك رداً على قولنا: [وإلا لعلم، مثلاً، علم يقين أننا نقول: (أن الأصل في الأشياء، والأفعال، والأقوال الإباحة)، وقد أصلنا ذلك – بحمد الله – على نحو لم نسبق إليه، إلا من الإمام الفقيه الحافظ الحجة أبي محمد علي بن حزم في أجزاء جوهرية منه]
نص قولنا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وهو (وقد أصلنا ذلك – بحمد الله – على نحو لم نسبق إليه، إلا من الإمام الفقيه الحافظ الحجة أبي محمد علي بن حزم في أجزاء جوهرية منه)، فالكلام عن (التأصيل الجوهري) الذي من الله علينا به، ولا فخر أو تباهي، فلم يسبقنا إليه، أو إلى بعضه، سوى الإمام الفحل أبو محمد علي بن حزم؛ أما جمهور الفقهاء الذين قالوا بها، وهم أكثر بكثير ممن ذكر، فلم يأت منهم تأصيل معتبر، اللهم إلا الجملة أو الجملتان، في أسطر قلية. وأكثرهم إنما يراها تنطبق فقط على (الأشياء) أو (المنافع)، وليس على الأقوال والأفعال، وإلا لما غرقوا في مستنقع الأقيسة الفاسدة، والآراء المنتنة.
فالأستاذ ضياء القدسي، فيما يظهر، لا يستطيع قراءة النصوص العربية الواضحة، وهذا برهان خامس على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي.

أما ذكرنا للقاعدة فلأن ذكره ضروري في الرد على كلامه هو، الذي هو هراء محض: (ما حكم من لم يبحث عن دليل في المباحات وبحث عن دليل التحريم فقط. وقال الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت دليل على حرمتها؟ هل مثل هذا الشخص لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله في الإتباع؟)
نقول: (هراء محض) لأن من قال بأن الأصل في الأشياء (وسنتساهل ها هنا معتبرين أن لفظة الأشياء تشمل الأعيان، والأفعال والأقوال) الإباحة، وسنفترض أنه أصل ذلك تأصيلاً قاطعاً للعذر، تقوم به الحجة، كما فعلنا نحن، بحمد الله؛ من قال بالقاعدة المذكورة لا يتصور أن (يبحث عن دليل الإباحة لذلك الشيء المخصوص) لأن الدليل قد قام وفق القاعدة العامة، وانتهى الأمر، وفرغ من المسألة؛ مع أنه كثيراً ما نجد أدلة مخصوصة على إباحة أشياء معينة، وهذا مزيد بيان من فضل الله ونعمته، ولو لم يأت لكفتنا القاعدة العامة، تماماً كفرضية الصلاة والزكاة جاءت بها آيات وأحاديث كثيرة، ولو لم تأت إلا واحدة لكفت ووفت، كما هو الحال بالنسبة للصيام والحج، وهما كذلك من أركان الإسلام، ورؤوس فرائض الدين، إنما فرض كل منهما بآية واحدة فقط.

لذلك فإن الواجب على المفتي إذا سئل عن دليل معين لإباحة شيء معين أن يعلم السائل أن هذا النوع من السؤال خطأ، وإنما يكون السؤال عن حرمة شيء معين، أو وجوبه، أو كراهيته، أو استحبابه. فلا حاجة لي مثلاً أن أذكر دليلاً معيناً على جواز كشف المرأة لوجهها، وعلى من زعم خلاف ذلك (أي من زعم أنه حرام أو مكروه، او حتى من زعم أنه مستحب أو واجب، كمن زعم حرمة النقاب، أو أن النقاب بدعة تركية، مثلاً) أن يأتي بدليله.
ولا تناقض بين هذا، مع قولنا: (حتى الإتباع في «المباحات» يحتاج إلى دليل، لأن الإباحة حكم شرعي تكليفي)، كذا في الطبعة القديمة، وقد أصلحناها هكذا: (حتى الإتباع في «الإباحة» يحتاج إلى دليل، لأن الإباحة حكم شرعي تكليفي)؛ وقد جاء الشرع، ولله الحمد، بالدليل العام وفق قاعدتنا المذكورة آنفاً، ولأن ذلك في مقام الرد على من زعم أن الأصل في الأشياء (معتبرين أن لفظة الأشياء تشمل الأعيان، والأفعال والأقوال) قبل ورود الشرع: الإباحة؛ وهو باطل لأنها لا حكم لها أصلاً قبل ورود الشرع.
فتخليط الأستاذ ضياء القدسي في هذه المسألة دليل سادس على أن الأستاذ ضياء القدسي لم يطلب العلم كما ينبغي!

| فصل: مسألة (التبني):
ثم أضاف الأستاذ ضياء القدسي بحثاً عن (التبني)، صال فيه وجال، مسيئاً لفهم كلامنا كعادته. يقول الأستاذ ضياء القدسي: [لا يمكن أن يفهم من كلام الأستاذ المسعري أن الذي يكفر بعد نزول القرآن هو الذي يعتقد «التبني» بمعنى «الاصطفاء» لأن من يعتقد أن الله اصطفى عيسى عليه السلام وجميع الأنبياء لا يكفر حتى بعد نزول القرآن. ولا يوجد في القرآن الكريم آية تمنع استعمال كلمة ابن بمعنى الاصطفاء حتى نحكم على من ينكرها بالكفر؟؟!
بل جاء في القرآن الكريم أن اليهود والنصارى ادعوا أنهم أبناء الله، قال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، (المائدة: 18). أقول: لا يفهم من إدعائهم أنهم أبناء الله، أنهم أبناؤه على الحقيقة، لأنه لا أحد من اليهود والنصارى يعتقد ذلك، ولكنهم قصدوا [أصفياؤه]، لهذا لم يُكذَّبوا على أنهم ادعوا البنوة الحقيقية لله ولم يكفروا لهذا القول، لأنهم لم يكونوا يدعون أنهم أبناء الله على الحقيقة. وإنما كُذبوا على أنهم أصفياء الله وأحباؤه، بقوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}، فالحبيب لا يعذب حبيبه ولا صفيه] انتهى كلام الأستاذ ضياء القدسي.
قلت: بل توجد آيات مكية كثيرة تنكر على من نسب إلى الله الولد، وعلى الذين خرقوا له بنين وبنات بغير علم،... إلخ. والتبني نوع مخصوص من الاصطفاء، وليس هو عين الاصطفاء، وكان المتبنى يحمل اسم متبنيه، وينتسب إليه، ويتوارثان، كابن الصلب تماماً، حتى نسخ هذا في السنة الخامسة للهجرة، أو بعدها بنزول الآيات الشهيرة في سورة الأحزاب.
ومن أوضح ذلك قوله، جل جلاله، وسما مقامه: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، (التوبة؛ 9: 29 - 31). فأنكر عليهم ذات التسمية: (ابن الله)، وجعلها مضاهاة لقول الكفار السابقين، فهي من أقوال الكفار، ومن جرأتهم وقلة أدبهم الخبيثة في الكلام عن الله، وأن كل ذك إفك وافتراء، لذلك قال: {قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، ولم يزد، ولم يذكر شركاً أو كفراً؛ ثم شدَّد النكير، وصعَّد التصنيف، فعقب بما هو كفر وشرك متيقن، ألا وهو اتخاذ الأحبار والرهبان والمسيح بن مريم (أرباباً) من دون الله، وحتى لا تبقى شبه في معنى الربوبية ها هنا، وأنها متلازمة مع الألوهية، قال: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وفي هذا أيضاً بيان جلي أنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد.
ولعلنا نلاحظ أنه، جل جلاله، وسما مقامه، لم يكرر ذكر عزير، كما فعل بالنسبة للمسيح بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، مما يشعر بأن مقولة اليهود: (عزير ابن الله)، وإن تطابقت في اللفظ مع مقولة النصارى، إلا أنها لا تعبر عن نفس المعتقد: فمقولة اليهود: إفك وافتراء، ومضاهاة لقول الكفار السابقين، فقط والله أعلم، أما مقولة النصارى فهي كذلك، وزيادة: تعبر عن اعتقاد معين جعل المسيح بن مريم إلاهاً ورباً من دون الله.
فلعلنا إذاً نستخير الله ونقول:
أولاً: أن معتقد اليهود، أو بعض فرق اليهود، في عزير إنما هو بنوة (التبني)فقط، وليس بنوة (الصلب) أي الانتماء إلى (العنصر، أو الجوهر أو النسب الإلاهي)؛
ثانياً: أن القول ببنوة (التبني) إنما هو بدعة ابتدعوها، مضاهاة لقول الكفار السابقين، وما أمروا بها قط؛ كما أنه ليس في نص القرآن ما يشعر بأنهم أمروا بتركها قبل نزول القرآن؛
ثالثاً: أن القول ببنوة (التبني)، وإن كان مضاهاة لقول الكفار السابقين، قبل نزول القرآن، ليس من أقوال الكفر، وإن كان في أصله ومنشئه من أقوال الكفار، فليست كل أقوال الكفار كفراً (ولا العكس: فليس كل من قال بمقولة كفر أصبح بعينه كافراً!).
أما بعد نزول القرآن، لما سبق ذكره، ولقوله، تباركت أسماؤه: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، (الزمر؛ 39: 4).
وقد قلنا في كتاب التوحيد بعد هذه الآية مباشرة ما نصه: [فهذا تقدير امتناع لامتناع من أوضح ما يكون: فلو فرض المحال، جدلاً، أن الله يشتهي الولد، ويريد أن يتخذ ولداً، تعالى وتقدس عن تلك الشهوات والإرادات، لما كان في الإمكان أكثر من أن «التبني»، أي أن «يصطفي» من مخلوقاته ما يشاء اصطفاءً خاصاً، فقط لا غير. أما ولد للصلب فمحال، وأما تبني كائنا إلاهيا آخر فيصبح ولداً متبنىً فمحال أيضاً، إذا ما ثم إلا كائن إلاهي واحد، فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان، هو الله العزيز الحكيم. وهذا هو قولنا الذي سلف، حرفاً بحرف، فالحمد لله الذي أنزل الذكر، قرآناً وسنة، شفاءً لما في الصدور، وهدىً ورحمة لقوم يوقنون.
وهذا الهدى والنور الذي أنزله الله على خاتمة أنبياء الله، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، يبين أيضاً أن الله، جل جلاله، لا يشتهي الولد أصلاً، ولا يريده، ومن ثم فهو لا «يتبنى» مطلقاً، قلا يجوز أن يوصف إنسان من البشر في الأرض، أو ملك من ملائكة السماء، أو أي مخلوق آخر، بأنه «ابن» الله، أو «بنت» الله. لذلك فإن القول بأن المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، ابن الله، حتى بمعنى «التبني» هذا، باطل، ومن قال به بعد نزول القرآن فهو كافر لأنه مكذب لله تعالى]، انتهى النص المنقول.

رد مع اقتباس